أ.د عامر حسن فياض
إنَّ أزمة الانسداد السياسي المعاش في العراق لم تولد من رحم الحقل السياسي الحالي فحسب، بل نشأت منذ عقود في رحم الحقل المجتمعي العراقي (السياسي – الاجتماعي – الاقتصادي – الثقافي) الذي لم يسمح بالتعددية السياسية ولا يقبل بمعارضة قوية ولم يتعود على الانتقال السلمي للسلطة).
إنَّ المنظومة المجتمعية للعراق تمثل تاريخيا، رحما مشوها لولادة دولة عصرية متعافية وهنا ولهذا السبب تغيب الشروط الموضوعية لبناء دولة حقيقية، الأمر الذي يتطلب توفر شرط وضعي لتغيير وإصلاح من الأعلى عبر نظام سياسي ينشغل أول ما ينشغل بإيقاف التدهور قبل أن يخدعنا بالازدهار
والتطور.
لقد حصر أهل مهنة وعلم السياسة أزمة النظام السياسي الفاشل اينما كان بأزمة الهوية بمعنى التشرذم الفكري الثقافي عن التكامل الوطني، وأزمة التغلغل بمعنى قصور الدولة عن فرض سيطرتها المادية وعن تطبيق قوانينها في مختلف أنحائها، وأزمة المشاركة بمعنى عدم انخراط قطاعات عريضة من المواطنين بالاسهام في عملية صنع القرار لعجز في المؤسسات ولعدم فعاليتها، وأزمة التوزيع بمعنى انتفاء العدالة في توزيع منافع النمو بعدالة بين المواطنين أو بين الأقاليم، وهناك أخيراً أزمة الشرعية، التي تتأتى كمحصلة لمختلف الأزمات السابقة وتُعبر عن رفض المواطنين للانصياع الطوعي لأوامر سلطة النظام السياسي مما يجعلها حالة مواجهة مستمرة مع
الشعب .
ان معالجة الانسداد السياسي يعتمد على نظام سياسي قادر على الخروج من دائرة التنجيم والكهانة والشعبوية والمكوناتية. نظام سياسي متمكن بنقل مستقبل أزمة الانسداد السياسي من البحث في الحقل السياسي فقط الى الحقل الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. ودون ذلك فإنَّ عدم تطبيق النصوص الدستورية باق، وضعف الجهاز الإداري للدولة في إنجاز الخطط التي تحقق التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية باق.. وتصاعد أعمال العنف والفساد وعدم الاستقرار باق.. وعدم الخروج من دائرة التوجهات التقليدية، وإن ظهرت بعض الانصياعات لاستحقاقات العصرنة، التي تحاول بعض الجهات والقوى الخارجية تعميمها باقية، وهذا يعني استمرار تحكم المظاهر التقليدية العصبوية والفئوية الطائفية والعشائرية، وذلك لا يولد سوى نظام سياسي فئوي متسلط تكون السلطة فيه موضع احتكار بيد فئات اجتماعية ونخب سياسية ضيقة الأفق واسعة المطامع.
إنَّ النظام السياسي على الرغم من تلويحه بشعار التعددية فإنه يقوم في جوهره على تقنية قوامها حاكم واحد متسلط على قوميته أو مذهبه او عشيرته أو حتى على زقاقه.
العراق وهو من أحد أغنى عشر دول في العالم من حيث الثروات الطبيعية دون عوائد المطارات والمنافذ الحدودية لكي يكون دولة حقيقية سياسياً واقتصادياً وعسكريا، وليس بقعا جغرافية غنية بالموارد وعلى رأس كل بقعة تجثم جماعة متنفذة تمتص أموال هذه البقعة باتفاق وبتهديد أو بابتزاز.. لكي يكون دولة حقيقية عليه أن يتجاوز انسداداته السياسية وغير السياسية التاريخية والمعاشة بنظام سياسي، يتجنب تدوير الثلة السياسية التي تتحكم به وصنعت كل
انسداداته.
باختصار شديد أن الانسداد السياسي هو أجود ما تنتجه مصانع الجهل السياسي المنتشرة بكثرة في بلادي.