في ذكرى عزالدين سليم
آراء
2022/05/15
+A
-A
ابراهيم العبادي
ظهيرة يوم بارد من ايام كانون الأول عام 1981 وفي بناية المركز الاسلامي للدراسات السياسية بطهران كان لقائي الأول بعزالدين سليم (1942 - 2004) (الحاج ابو ياسين )، بطلاقة وجه وسماحة بصرية معهودة استقبلني بعد أن قدمني عمي اليه: هذا ابن أخي وصل للتو من العراق، وقد أفلت من بين اشداق الموت
كان عمي قد ذكر لي أنه سيعرفني على أهم شخصية من شخصيات خط البصرة - الفرع المنشق عن حزب الدعوة الاسلامية بعد مؤتمر الاهواز (1981) الذي عقده الحزب، وأسفر عن اختيار قيادة للدعوة لم يكن من بين نجومها رجل الحزب الاول محمد هادي السبيتي المقيم في الاردن، يومها تم حسم الخلافات بطريقة الإلزام الشرعي وفتوى فقيه الحزب، فأدى ذلك إلى خروج كوادر وازنة لها ثقلها الحزبي والمعنوي برئاسة ابي ياسين والشيخ علي الكوراني، ما لبث الكوراني أن انسحب لاحقا ليقاد التنظيم المنشق عبر جماعة كان ابو ياسين ألمعهم وأبرزهم.
من يومها كُتب للدعوة تاريخ جديد، وصار ممكنا الحديث بالمصطلحات السياسية الحديثة عن جناح (يساري) لم يقبل دخول المؤتمر ولا بنتائجه، التي أدت إلى تهميش السبيتي وهيمنة مجموعة من رجال الدين على قيادة الدعوة تُصنف ضمن الاتجاهات الدينية المحافظة، وأنها جاءت لتلغي تأثيرات السبيتي تدريجيا بعد أن اتهم من قبل الآخرين بأنه أقل شيعية وأكثر تأثرا بالفكر التحريري والإخواني، كما أنه لم يكن يخفي نقده لبعض الزعامات والشخصيات الدينية.
تعرض السبيتي لنقد (هامس) من بعض الذين كانوا يشاركونه القيادة الجماعية ليس لعدم كفاءته وسعة أفقه وعمق قراءته للأحداث، بل لخطابه الإسلامي غير التقليدي الصادر عن عقل غير حوزوي، ترتب على هذا الانشقاق أن المنشقين صاروا معروفين بخط السبيتي أو خط البصرة لغلبة كوادر الدعوة البصريين عليه.
منذ ذلك التاريخ والدعوة تعيش تاثيرات هذا الانقسام فكريا وسياسيا رغم تلاشي فروع الدعوة وضعف تيارها العام.
في الكاظمية وعلى أضواء الشموع مساء يوم 22-7-2003 التقيت أبا ياسين في فندق البراق بعد سقوط النظام البعثي، كان عائدا للتو من اجتماع لمجلس الحكم جديد التأسيس، وفي سهرة مطولة مليئة بأسئلة الشجن والقلق، واصل ابو ياسين البوح بمخاوفه على مصير بلده المنكوب، أبدى خشية بالغة من السياسة الأميركية ومن أطروحات بعض زملائه في مجلس الحكم، وجدته حاد الذكاء وقاد الذهن كأنه يواصل مسيرة السبيتي ويذكرني بقراءة (يسارية) لمآلات الأمور، تخوف من الطائفية، ومن العنف المجتمعي ومن سوء الأداء وعدم القدرة على تقدير المخاطر، أبدى خشية من بعض التوجهات الراديكالية التي بدأت تتمظهر، كان يقول أن الحطام الذي تركه نظام صدام يحتاج إلى روية واعتدال في المعالجات، وجدته يستحضر ثورة العشرين ونتائجها السياسية، ليعيد تذكيرنا بأن دروس تلك الايام ينبغي أن تكون حاضرة، فلايجوز تضييع الفرصة لبناء حياة سياسية جديدة تعيد إلى التعددية العراقية صورتها التاريخية.
خاض ابو ياسين خلال عامه الذي قضاه بعد عودته إلى العراق، معركة غير مكتملة في عالم العراق المضطرب، كان عليه أن يقنع جمهورا ضائعا تائها بأن مسيرة بناء الدولة وترميم جراحات الوطن لن تتم بين عشية وضحاها، فقد كان مدركا لصعوبات المهمة وواقعيا في فهمه لانماط الرجال، الذين عاصرهم وصاروا يتنافسون على مواقع السلطة في العراق الجديد، لسان حاله كان يقول أن ليل العراق سيطول في ظل سذاجة سياسية ومراهقة كانت تحرق المراحل، تتعجل قطف الثمار دون ان تكتنز وعيا بمخاطر المرحلة.
ربما لا يسجل اسم أبي ياسين في سجل رجال السياسة اللامعين في العراق لقصر فترة ممارسته السياسة من موقع السلطة، غير أنه بقي وفيا لسمة شخصيته المتواضعة واعتدال فكره مع مسحة (اليساريَّة)، التي تغلف أفكاره وسلوكه السياسي، تحسن الإشارة إلى أنه كان يفكر بالفقر بوصفه آفة الآفات التي ستحرق الاجتماع العراقي، كتب عن الفقر في نهاية السبيعنيات، حينما كان نزيل الكويت مطاردا ومهاجرا، ثم عايش فقر العراقيين في مخيمات ايران ومدنها العتيقة قبل انتفاضة عام 1991 وبعدها، ثم كانت صور الحرمان والقمع والحصارات تؤرق حياة العراقيين وتدفع بهم نحو تيارات دينية وسياسية كان الكثير منها يستبطن نزعة الثورة والتمرد والتطرف، لهذا كان (الحجي ) يقرأ الواقع بخلفية اجتماعية ودراية بالموروث السياسي العراقي ذي النزعة الثائرة، لكن ما من أحد من زملائه الاسلاميين كان يفكر مثله ويأخذ تنبؤاته وتوقعاته وحدسه قيد التفكير الجاد، ربما كان لتنشئته الترابية وسعة قراءاته التاريخية وذوقه الاجتماعي عميق الأثر في تشكيل نمط تفكيره، فما هو معروف عنه أنه كان يفكر خارج (الصندوق) في كثير من الأحيان وهذه تحسب له، فهو لم يقع في أسر القوالب الحزبية وأنماطها الجامدة، أنه ابن الواقع العراقي ذي النزعة الوطنية والتدين الشعبي والانفعال السياسي، فرغم اسلاميته وتدينه، لكنه رفض الانصياع للأجواء الفكرية والسياسية التي تشكلت في ايران بعد الانتصار، كانت الحزبية الاسلامية المهاجرة موضع تشكيك ما لم تدخل في نطاق الولاية (واذرعها ونطاقاتها)، التي مثلتها شخصية قائد الثورة الاسلامية السيد الخميني الراحل.
جادلته يوما في عام 1987 عن امكانية قبول الأحزاب الاسلامية العراقية بممثل للإمام الخميني ينجيها من لغط التشكيك والنبذ والمضايقات، رفض بشدة كأنه كان يقرأ مضاعفات ذلك على صورة العراقي المهاجر حينما تحاصره (المديونية السياسية)، كما يسميها زميلنا الكاتب علي المدن، قد يكون أبو ياسين قد قرأ المستقبل بعيون (الوطنية العراقية) التي تشتد الحاجة والدعوة اليها هذه الايام، ما دفع زميلنا الآخر رفيق رحلة الكتابة والمعاناة جواد علي كسار ليفرد لها كتابا مقارنا بين الوطنية العراقية وبين تجربتين اسلاميتين معاصرتين، هما تجربة ايران وتركيا.
للإنصاف والتاريخ فقد كان أبو ياسين يتحدث عن الوطن الاسلامي بالمفهوم الديني وليس بمفهوم الفكر السياسي الحديث، غير أن الواقعية السياسية وضرورات التجديد والتطوير للفكر السياسي الاسلامي، حتمت مقاربات جريئة مبكرة تأخذ خصوصية البلدان وهويتها السياسية وتعريفها القانوني أخذا لا لبس فيه، فإن تكون إسلاميا لا يمنع أن تكون وطنيا بمعنى تقديم مصالح وطنك، مثلما لا يجد الآخرون غضاضة في ذلك دون أن يقدح بإسلاميتهم.
طار خبر مقتل رئيس مجلس الحكم العراقي عزالدين سليم في الأجواء يوم 17-5 2004،كان قتله المدروس قتلا للحلم العراقي، فعلاوة على شمائله وشخصيته الدافئة المحببة إلى الناس، فإنه كان يحمل مشروع التسامح الذي افتقده العراق في مواجهة تعصب شامل ديني وقومي ومذهبي وحزبي ومناطقي بدد كل ما بناه العراقيون، كان هذا (الرئيس) ساعيا بجد إلى عراق خالٍ من التشوه المتراكم، الذي كرسته نخبة سياسية لم تقرأ تجارب التاريخين العراقيين، القديم والحديث.
تسامح عزالدين سليم تكويني معرفي ثقافي، جسد تاريخ البصرة المكتنز بالأفكار الانسانية والتراث الإبداعي والشخصية السياسية السلسة الخالية من العقد والتمركز على الذات، للمكان دخل في سياسات السلطة كما يقول الفرنسي بول كلافال، انتفع العراق والعالم من البصرة معرفيا واقتصاديا لكنه لم يجرب أخلاقيات وحكمة البصرة السياسية (حكمة اخوان الصفا وخلان الوفا ) ماخلا سبعة عشر يوما.
ترأس فيها أبو ياسين مجلس الحكم.