جاسم عاصي
إن كل ما ورد دليل دقيق على البنية النفسيَّة التي عليها (جلجامش)، وما موقف أنكيدو سوى إبعاد مثل هذا الشك من ذهن الملك، بمعنى كان التفسير محايثاً للوعي الشعبي الذي يوازن بين الأشياء، ويضع المتماثلات التي من شأنها إحداث الاستقرار في الموقف الصعب.
إنَّ رؤيا جلجامش كانت دوافعها أفعالاً في الواقع, ورغبة كامنة في التغيير, لم يتمكن من التعبير عنها, لذا كانت الأحلام ذريعة أو قناعاً مكنه من استقبال حياة جديدة ومغايرة, وما إسهامة ننسون إلا دليل فهم جيد لبنية ولدها المبنيَّة على القلق والخوف من مصير مجهول. والدليل على ذلك استجابته لأنكيدو, وعقده صفقة المرافقة إلى غابة الأرز، كذلك دفعه لشمخت للذهاب إلى أنكيدو وترويضه واصطحابه إلى الحاضرة.
وحين أوشكت رحلة جلجامش على البدء إلى غابة الأرز, فإنَّ الأم ننسون أعدت لأنكيدو طقساً أملت من خلاله وصاياها له وهو يزمع مرافقة ولدها كدليلٍ وحامٍ لخطى وأحلام الملك. وهذا الطقس تمثل بجملة فعاليات القصد منها إعطاء أهمية احتفاليَّة لشخص أنكيدو, كما أنها خاطبته بعبارة ولدي, تحقيقاً للأمومة بالتبني والدال على نوعٍ من الاعتزاز بشخصه, ورغبتها في حماية ولدها من التمادي في غيّهٍ من جهة, ومن حمايته من الأذى الذي قد يلحقُ فيه جرّاء رحلة الغموض هذه:
(قدمت البخور وتلفظت التعويذة/ ودعت أنكيدو وقدمت له وصية/ يا أنكيدو القوي أنت لست من نسلي/ أقول لك الآن مع أنصار جلجامش/ الكاهنات العلويات والمنذورات وفتيات الطقس/ ووضعت مسنداً على رقبة أنكيدو/ وأخذت الكاهنات العلويا/ وعظموا زوجات الأرباب)
وفي مكانٍ آخر مارست الطقوس الدالة ذاتها على مفاهيم شعبيَّة خالصة, وهي تشبه المراسيم التي تقيمها النساء درءاً للسحر ودفع الخطر المحتمل الذي يداهم الأعزاء ممن يرتبطن بهم:
(دخلت ننسون إلى غرفتها ولبست بدلة ملائمة لجسمها ولبست حلياً تلائم صدرها.. ولبست غطاء رأسها/ صعدت السلم واعتلت الحاجز/ أوقفت السقف ووضعت البخور إلى الإله شمش/ ووضعت السكيبة أمام الإله شمش ورفعت يديها..)
كما ونلاحظ أنَّ أنكيدو مارس الطقوس عينها, وهو يستعد لفعلٍ ما, فكان الوصف كالآتي: (دهن أعضاء جسمه ومسح نفسه بالزيت وصار كإنسان/ فارتدى بدلة وصار مثل الرجال/ وأخذ سلاحه ليقاتل).
لعلَّ حزن جلجامش على صديقه أنكيدو توج الطقسيَّة الشعبيَّة في الملحمة وطورها باتجاه أداء طقوس الحزن والمراثي, وهو حزنٌ يتخلله رثاءٌ ومندوبة ذات صفة شعبيَّة. وهي مراسيم عراقيَّة استنبتت منذ عصر السومريين ـ كما ذكر الدكتور نائل حنون في كتابه (عقائد ما بعد الموت في وادي الرافدين) ـ. وما استجابة جلجامش لهذا الطقس أو الشعيرة سوى إظهاره لحزنه جرّاء فراقه الأبدي لخلـّه أنكيدو:
(إسمعوا يا شيبة اوروك/ إستمعوا لي/ إني أبكي على صديقي انكيدو/ أبكي عليه بصوتٍ عالٍ كامرأة منتحبة/ إنه الفاس التي على جانبي والقوس الذي في يدي/ وهو السيف الذي في حزامي, والدرع الذي أمامي/ وبدله أعيادي وزينتي الثرية أخذه مني عفريت شرير/ صديقي الشاب الذي كان يصطاد حمار وحش التلال وفهد البرية/ صديقي الحدث السن أنكيدو/ اصطدت حمار وحش التلال وفهد البرية/ الذي امسك وذبح الثور/ وذبحنا خمبابا الذي يعيش في غابة الأرز/ فماذا دهاك الآن؟ هل هو النوم قد تمكن منك؟/ هل دهاك الظلام؟ أفلا تسمعني؟/ لمس جلجامش قلبه فوجده لا ينبض فغطى وجهه مثل ما تغطى العروس/ وصاح عالياً مثل لبوة فقدت أشبالها/ وصار يروح ويغدو أمام صديقه/ ناتفاً شعره ورامياً له بعيداً/ ممزقاً ثيابه وكأنها غير نظيفة/ وعند بدء الصباح في الإنارة).
هذه المندوبة تكشف عن مدى القلق الذي اجتاح جلجامش الذي سببه حزنه على فقدانه الأزلي لخله أنكيدو, متوسلاً بكل التقدميات التي قدمها إليه في حياته, دليل تعلقه بشخصه, ما حدا به إلى تذكر كل تفاصيل العلاقة. وهذا نوعٌ وشكلٌ من التعزية التي تؤديها الذات مع نفسها, اعتزازاً بالفقيد, كما هو في الموروث الشعبي, أو الثقافة السائدة بين الناس في أحزانهم وأفراحهم, معبّرين عن درجة التعلق بالآخر.
وإزاء الشعور بالمرارة والحزن على الفقدان, نراه يرثي نفسه, مجسداً خوفه من الموت, والمصير المحتوم الذي يتهدده:
(على صديقه أنكيدو يبكي جلجامش بمرارة, ويجوب البراري عندما أموت, هل سوف لا أكون مثل أنكيدو؟ لقد دخلت الأحزان فؤادي/ أنا أخاف الموت ولهذا البراري)
حزنه أكثر وهو يطلق مندوبته على جثمان صديقه:
(الذي ذهب معي في جميع الصعاب/ أنكيدو الذي أحببت كثيراً وذهب معي في جميع الصعاب قد ذهب إلى مصير البشريَّة, وبكيت عليه ليلاً ونهاراً/ وسوف لا أعطيه إلى القبر/ هل أن صديقي لا يستيقظ على نحيبي/ سبعة أيام وسبع ليال, حتى سقطت دودة من أنفه/ ومنذ فراقه لم أجد أي حياة وهمت في البرّية كالصياد).
ومن أشكال الطقسية التي أشرت محتوى صياغة الذهن الشعبي في الملحمة, ما ذكره الدكتور سامي سليمان الأحمد في كتابه (جلجامش), ما مفاده "وقد وضعوا أشكالاً طينية لجلجامش, وضعوها على مداخل البيوت لحمايتها من أرواح الشرور ص67. كذلك نلاحظ أنَّ الملحمة تشير إلى الذهنية الشعبيَّة التي تحيل التشكل الأول إلى الطين, مثلها مثل قصة الخليقة البابليَّة, وبمثل ما قامت فيه (أورورو) وهي تخلق أنكيدو من الطين. إنَّ العودة إلى الخلق الأول بدلالة العودة إلى الطين, دليلٌ على ما اعتمدته الذهنيَّة الشعبيَّة وهي تصوغ أكبر ملحمة, روت حكاية الرعايا المسحوقين في أوروك، إذ نرى جلجامش يؤكد مثل هذه العودة في:
(حقاً لقد رجعت الأيام الأولى إلى طين)
نخلص مما تقدم إلى أنَّ نص الملحمة هو نصٌّ معنيٌّ بثقافة الناس الشعبية ومتشكل محتوى ذهنهم الشعبي الذي يؤسس وعيهم الطبقي, لأنَّ الملحمة في هذا عالجت همومهم الحياتيَّة, وما سببته السلطة الحاكمة من إرباكٍ لها, ثم أنَّ آليات طرحهم لمثل هذه الإشكالات في الحياة, تجسد في صراعٍ غير حادٍ مع بنية الملك السياسيَّة ــ الاجتماعيَّة حيث توسلوا جرّاءه بنوعٍ من الطقسيَّة أيضاً, وهو التضرع إلى الإله شمش في إنقاذهم مما هم عليه من حال. وكان ذلك مجسداً بجملة فعاليات ذات خاصيَّة شعبيَّة, لأنها تُخاطر وتتماثل مع مكون الرعايا في أوروك.