د.يحيى حسين زامل
مضی «الأنثروبولوجي الصيّاد» يبحث عن طريدة جديدة، عن فرصة لاستكشاف عوالم مغمورة، عن حلم جديد، يمتلئ بأسرار وسحر الكائنات الخفية، عن عالم الذكر والاتصال بكائنات غائبة، فوقيّة، تسيح في ملكوت الله، عالم آخر مواز لعالمنا حجبته قدرة الله الحكيمة عن اعيننا، ولكن وحدها البصيرة من ترشدنا إلی تلك العوالم الخفيّة، من خلال بعض المفاتيح، الصلاة، المعرفة، الذكر، التسبيح في عالم متصوف.
لقد كتب «الأنثروبولوجي الصيّاد» علی نفسه أن يقوم برحلات إثنوجرافيّة في عالم فسيح، عالم تتعدد فيه الرؤی والحكايات المتخيلة، عالم من عوالمنا الساكنة خلف ستار من كلماتنا المكررة أو السرّيانية -من السر - المطلة علی شرفة الروح والامكنة الخبيئة، في عالم يستظل ببرقع الحياة وصورها الخادعة.
يحاول «الأنثروبولوجي الصياد» أن يفك تلك الأسرار المخبوءة تحت ستار الكلمات والأعداد والخرزات المصنوعة من مواد مختلفة
ومتنوعة.
دلف «الأنثروبولوجي الصياد» إلی سوق المسابح والأحجار الكريمة في ساحة الميدان في باب المعظم، الذي بدا كسيف عربي باستدارته الممشوقة، فهو منحني بلطف لا يظهر ذلك إلا للمترقب المتفحص، يتوزع بين جانبيه دكاكين ومحال مختلفة التخصصات، من مصلحي الراديوات القديمة (اللمبات) والمسجلات ذات الأشرطة الكبيرة، وكذلك مشغلات الأسطوانات (الكرامفون)، ولكن الغالب علی ذلك السوق متاجر الأحجار الكريمة والمسابح .
وقف «الانثروبولوجي الصيّاد» أمام
محال الأحجار الكريمة المجلوبة من الهند (عقيق هندي) واليمن (عقيق يماني، بألوانه التمري، والرطبي، والمشمشي، وشفة العبد) وأفريقيا (الياقوت، والزفير) والصين (الحجر الصيني الأسود ذي التعويذات السلطانية) وسيناء مصر (الفيروزج السينائي)، وايران (العقيق الخراساني، والفيروزج النيشابوري) أحجار من كل مكان من العالم ما دام هناك طريق وتجار، يتاجرون بأحجار خام ومصقولة بأشكال وأحجام مختلفة.
تقبع تلك الأحجار في أوانٍ، البعض منها خلف إطارات من زجاج، والآخر في الهواء الطلق، والنادر مخبء في الجيوب.
ومن هذه الأحجار تتم جراخة المسابح التي تنقسم إلى أنواع، مسابح الذكر وعددها (101)، ومسابح الزينة والتفاخر وهي الثلث (33) خرزة، وثلثان(66) خرزة، واندرها الكهرب ويأتي من ألمانيا وروسيا.
كان ثمة رجل ستيتي، يحمل بيده مسبحة صفراء، في أكثر حباتها حشرة، يسقط حباتها خرزة خرزة، كأنما يذكر الله، أو يُعّدَّ أيامه الأخيرة بهدوء غريب، فقد كان ومسبحته منسجمين، أو قل متماهيين مثل أفعى وحاويها، حتى انقلب لونها على سحنته الذهبية، وحين سأل «الانثروبولوجي الصياد» ذلك الرجل عنها قال يسمونها (أم الحشرة).
شخص آخر يحمل على كفه مجموعة من المسابح السوداء ذات حبات صغيرة ومفضضة، إنها مسبحة «اليسر» شجرة من أعماق البحر متحجرة ومصقولة، فائدتها قال ذلك الرجل: تسري عن حاملها الحزن والكدر، وإذا حملتها وأنت كدر ستنكسر حباتها، فهي تتأثر كموجات كهرومغناطيسية تتسرب من يدك إليها فتشعر بالارتياح.... أمسك «الأنثروبولوجي الصيّاد» تلك المسبحة السوداء وكأنه يختبرها، ولكنه فَضّل أن يدسها في جيبه، وأن ينقّد صاحبها ثمنها المطلوب، هل كان ضحية لأسرار كاذبة يروّج لها باعة تلك الأشياء النادرة والجميلة، أم يريد أن يخضعها للتجربة؟ سؤال يبحث عن إجابة في تراث وعادات وتقاليد ضاربة في القدم.
دلف «الأنثروبولوجي الصيّاد» في قيّصريّة مبنية بالطابوق التراثي ( الچف قيم) كانت المسابح معلقة على زجاج المحال (الجام خانات) متنوعة ومختلفة، سأل البائع الذي كان شاباً ممتلئ الجسم بلحية كثيفة عن مسابح صفراء طويلة من حجر مغبش أو مضبب، فأجابه: إنها «البايزهر»، حجر كريم يقولون إن مسحوق هذا الحجر ينفع من سم الافاعي، نظر إليه الصياد باندهاش وعُجُب، ففهم البائع تلك النظرات فوراً، وقال : لا تصدق، من حقك، فاذهب واقرأ عن أسرار هذا الحجر.
وفي تلك القيّصريّة كانت هناك مسابح الفقراء من البلاستك الملّون والبولستر، والطين المفخور، فوق مناضد من الخشب (چنابر).
إن السبحة الكربلائية، مسبحة الدراويش والفقراء والمساكين واهل الله، فما بينك وبينها خيط رفيع من الأسرار التي لا تحتمل، فلم نسمع أن مثلا إن حملها فقط لك فيه فضل التسبيح إلا في تلك السبحة الطينية، التي ترمز إلى مادة الإنسان الأولى.
وهناك ايضا مسابح الخشب، البعض منها من خشب (الكوك)، والآخر من خشب يحتمل الجراخة والتنعيم، إنها مسابح الدراويش والمتصوفة التي يضعونها في الأعناق قريباً من حبل الوريد.. وقريبا من اليد حين الفراغ.. هل فهمت؟.
نظر «الأنثروبولوجي الصياد» إلى زقاق المسابح وقد بدا خالياً من المارة يذاناً بانتهاء العمل في تلك السوق، وقد ظهر أن الباعة أخذوا يجمعون بضاعتهم ويتهيئون إلی إقفال محالهم، بينما ينقل « الأنثروبولوجي الصيّاد» خطواته المتعبة إلى خارج السوق، وقد ازدحم ذهنه بمعلومات ثريّة تصلح أن تكون نصاً إثنوجرافياً
مائزاً.