د.عبداللطيف رشيد
رغم بدهية العنوان أعلاه إلا أن التعامل الحالي مع ملف المياه في العراق لا يعتمد على تنفيذ خطط ستراتيجية طويلة الأمد، وضعها خبراء ومختصون ومؤسسات عريقة، رغم توفر هذه الدراسات والتوصيات فعلا، إذ نشهد موجات عابرة من الاهتمام بموضوع المياه مع بداية كل موسم جفاف، ثم يتم الانشغال عنه بملفات ساخنة أخرى، ومع مرور الوقت تتضخم أزمة المياه حتى وصلنا إلى الوضع الخطير الحالي.
إن أزمة المياه متواصلة منذ عدة عقود وهي ترتبط، في الدرجة الاولى، بالتغيرات المناخية الكبيرة التي تشهدها الكرة الارضية، خاصة منطقة الشرق الاوسط حيث تتسع الصحارى كلما تراجعت كميات المياه المتوفرة، والعراق تحديدا سيواجه الجزء الاكثر حدة من المشكلة نظرا لكونه دولة مصب حيث تقع منابع مياهه خارج حدوده، كما تعرضت تربته لتغييرات كبيرة، جعلتها أكثر هشاشة وأقل تماسكا مع توالي سنوات الجفاف، وتزايد حركة الآليات العسكرية وتراجع أعداد أشجار النخيل ومساحات الغطاء الأخضر، وهو ما انعكس اليوم في موجات الغبار المتحركة من دول الجوار لتضرب البلاد معظم أيام السنة.
سبق وأن طرحنا خلال السنوات الماضية حلولا وخططا لمواجهة أزمة المياه وما يتبعها من أزمات في البيئة والزراعة واستقرار السكان، وجوهر هذه الطروحات هو اعتبار المياه قضية عليا يديرها المختصون ويدعمهم الساسة وليس العكس، وفي مقدمة العلاج معرفة الخطط التشغيلية للمياه، التي تعتمدها دول الجوار لكي يتمكن العراق من وضع سياسة واقعية لإدارة المياه، بعيدا عن الخطوات المفاجئة، وهذا المطلب يجب أن يكون في مقدمة حواراتنا مع دول الجوار، بعيدا عن التصعيد والتهديد فكلها أساليب غير مجدية في هذا الملف الخطير، تمهيدا للتوصل إلى اتفاقيات ثابتة لتوزيع الحصص المائية.
يجب أن نضع في نظر الاعتبار أن التغيرات البيئية وموجات الجفاف تضرب جميع البلدان، كما أن زيادة الطلب على المياه تشمل كل المجتمعات، لكن هذا يجب ألا يكون على حساب الحقوق المائية العادلة للعراق، ولكي تكون مطالبتنا بحصص عادلة مقبولة علينا اعتماد أساليب حديثة في ري المزروعات، بدلا من الاساليب القديمة المعتمدة الآن، وتقليل نسب التبخر عبر توفير غطاء أخضر في المناطق المحاذية للانهار، وكذلك حماية مجاري الأنهار من التلويث والتجاوزات بالبناء او غيره من الاستخدامات وايقاف الهدر في استخدام المياه وتطوير تخزينها.
تحقيق كل هذه الأمور يحتاج إلى إدارة قوية ومهنية لملف المياه والتوسع في الاستثمار وإشاعة ثقافة عامة للحفاظ على هذا العنصر الحيوي، عبر مناهج تربويَّة وإعلامية تخاطب مختلف الأعمار ومستويات الوعي، وتشارك في تأسيس هذه الثقافة جميع المؤسسات والنخب، لأن المياه ليس قضية عابرة.
عمليا، لا بدَّ من تحسين وتقوية إدارة المياه ويجب التحرك سريعا في اتجاهين، الاول تشكيل مجلس أعلى للمياه من الخبراء والمتخصصين خارج الأطر البيروقراطية المعتادة في العمل الاداري والحكومي، ومهمة هذا المجلس وضع سياسات لإدارة ملف المياه، وتحظى توجيهات وخطط المجلس بقيمة اعتبارية ومهنية ملزمة للجهات الحكومية التنفيذية.
والاتجاه الثاني يتضمن التحرك السياسي والدبلوماسي لإطلاق حوار إقليمي موسع، للتوصل إلى توافقات واتفاقات بين حكومات الدول، وبالأخص تركيا وايران والعراق وسوريا، لإيقاف الخطوات والمشاريع التفردية مثلما تفعل تركيا ببناء السدود العملاقة التي تؤثر بشكل كبير في الامدادات المائية في نهري دجلة والفرات، ولا بأس في أن يسعى العراق لعقد مؤتمر دولي أو إقليمي في هذا السياق وأن يجعل من هذا الملف أساسيا في علاقاته مع الدول الأخرى، لأن استقراره مرهون باستمرار تدفق كميات مناسبة من المياه، وهو استقرار ضروري لبقية دول المنطقة.
وزير الموارد المائيَّة الأسبق