{مرج خيط}.. فن الفولكلور والحياة الشعبية

فلكلور 2022/05/22
...

 رولا حسن * 
 
عندما يتحول فستانك أو قميص شخص تحبه أو تنورة لها ذكرى خاصة لديك إلى لوحة قماشيَّة كتب عليها "أنا ساكن في السيدة وحبيبي ساكن في الحسين" مشاعر كثيرة ستنتابك وشريط من الذكريات الجميلة سيمر. ستبتسمين وأنت تمررين يدك على القماش وكأنك تستحضرين اللحظة بكل ما فيها من حرارة وشوق ولهفة.
إبراهيم البريدي الفنان التشكيلي المصري بضحكته الطفوليَّة التي لا تفارق وجهه حول حياة الشارع المصري البسيطة بكل ما فيها من تفاصيل إلى لوحات قماشية موصولة بخيوط واضحة تنبض بالحياة وتؤرشف حياة بأكملها.
لم يدرس البريدي في كلية الفنون الجميلة، ولم يتعلم الفن أكاديمياً، بل هو مؤهل بمعهد متوسط، كان حلمه أن يصبح فنان كاريكاتير، عمل في مهن كثيرة إلى أن حقق حلمه كرسام كاريكاتير وحصل على جائزة سول الدولية للكاريكاتير بكوريا. لكن ذلك لم يشبع جوعه إلى الفن.
لم يتوقع هذا الرجل الخمسيني الذي جاء من الأقاليم البعيدة إلى القاهرة أن تغير حياته إلى الأبد، قليل من قصاصات القماش بألوانها الزاهية تبيعها عجوز مسنة على الرصيف؛ لذا سنتركه يقص الحكاية:
"كنت أمشي في سوق المرج القديم ولفتت نظري سيدة عجوز تبيع قصاصات قماش بألوان زاهية قديمة وجديدة فاشتريت منها كمية وعدت إلى البيت وبدأت بتجهيز شاليهات خشب (30/ 40) واستخدمت بعض الأقمشة كوال للوحة وبدأت أرسم كأني ألعب وقدمت أعمالي للجمعية المصرية للكاريكاتير فاقتنوا كل أعمالي بسعر كبير.. وقتها شعرت أن مسار حياتي بدأ يتغير.  
هكذا صار البريدي وبكل بساطة مؤسسا لفن جديد هو  "مرج خيط" و بحسب تعبيره "هو فن يعتمد على قصاقيص قماش مخيطة لتشكل مشهدا حياتيا يخص الشارع المصري، الأهم أن تظهر الخياطة التي تصل القصاقيص ببعضها وليس بالضرورة أن تكون الخياطة متقنة لأنَّ عشوائية الخياطة هي التي تعطي للوحة جمالها".
وطبعا حكاية قصاقيص القماش مع الفن ليست حديثة العهد فهناك ما يعرف بفن "الكوبليت" وهو فن الرسم بالقماش، إذ تأخذ قطع الألوان المتدرّجة الألوان قياسات دقيقة يتم وصلها مع بعضها وقد بدأ أصل هذا الفن بالقطن المصري.
أما البارتشكوك وهو ما يسمى بـ (الترقيع المجنون) إذ توصل قطع مختلفة من القماش ببعضها ويعود هذا الفن إلى الفراعنة حيث توجد في المتحف المصري قطعة ملابس للملك توت غنج آمون مصنوعة بطريقة البارتشوك وتعود للأسرة (18). 
ومنها جاء المصريون بفن الخياميَّة التي تنسب للخيام، ولأنَّ البريدي سليل هؤلاء فقد خرج الـ (مرج خيط) بطريقة تلقائية ليحيي فن القماش ويعيد للحياة الفطرية 
نبضها عبر لوحات تنشر البهجة.
أما من أين جاءت التسمية فتلك حكاية أخرى.. انتقل البريدي إلى القاهرة ليكون قريباً من الحركة التشكيلية المصرية، فسكن في حي المرج القديم وهو حي يقع شمال مدينة القاهرة، وحين سأله الصحفيون هل هذا الفن هو كولاج بقصاصات القماش أم خيامية أم.. أجاب بابتسامته التي لا تفارق وجهه أنَّ فن "المرج خيط " بعدها ظهرت أعماله في الصفحات الأخيرة للمجلات، ألوان بمساحة كبيرة يتصدرها عنوان "فن جديد ينسب للفنان إبراهيم البريدي اسمه مرج خيط من دون استخدام قلم أو فرشاة أو 
ألوان".
يستخدم البريدي مخزون الطفولة خلال حياته في الريف الذي بدأ يندثر وتفاصيل تلك الحياة، ويحاول ايصالها بصدق إلى المتلقي العادي من خلال ما شاهده وما عايشه أيضاً في القاهرة، كالليلة الكبيرة التي خصها بمعرض كامل، ومواليد الأولياء الصالحين محاولاً صياغتها من جديد.. يصر البريدي أن يكون المتلقي جزءا من اللوحة أو مكمل لها ولا سيما حين يقف أمام اللوحة ويبتسم، ما يهم البريدي هو هذه الابتسامة أو الدهشة في عيني طفل صغير حينها يعرف أن اللوحة نجحت تماماً.
يختار البريدي أقمشة ذات ملمس قريب من الشخصية وتمس روحها، كالقطنيَّة لأنّه يعدها أقمشة حيَّة تنبض بالحياة، فهو يختار التي تشد روحه سواء في الملمس أو اللون، والقطن عدا عن كل ما ذكر هو سهل القص والتكوين والملمس فهو على حد تعبيره "مكمل لروح العمل وقريب منه". 
ثمة روح لا تخفى في لوحات البريدي، روح ذلك الطفل بكل ذكرياته، طفل لا يريد أن يكبر ولا يريد لفظاظة عالم الكبار أن تجتاح عالمه البريء والبسيط، فكل أعماله بشكلها هي أقرب إلى الطفولة، ولكنها في الوقت ذاته جزء من روح المجتمع الذي يعيش فيه.
يبحث البريدي عن البهجة المفتقدة في العالم الحالي، العالم الذي تفتته الحروب ويدفع فيه الإنسان يومياً ضريبة الفقد والعزلة والخذلان، ويعمل بجد على صنعها بكل براءة في لوحاته، إيمانا منه على أن خلاصنا في هذا العالم المشحون بالقسوة لن يكون إلا بالحب، لذا عمل جاداً على تسجيل مشاهداته اليومية في الحارات الشعبية والمقاهي يسرح في أشكال الناس وطريقة ممارستهم لحياتهم البسيطة، لأنه يعرف أنه في تلك الأماكن لا يزال الناس يعرفون الحب، ولطالما ركّز على الألوان التي يلبسونها الأمر الذي تسبب له في الكثير من المشكلات.
* (كاتبة من سوريا)