امتيازات مشبوهة بمليارات الدولارات لعائلة بينيتون

بانوراما 2019/03/23
...

ديفيد سيغال وغايا بيانيغياني
ترجمة: خالد قاسم
قبل فترة طويلة من سقوط جسر موراندي في مدينة جنوى الإيطالية العام الماضي مما تسبب بمقتل 43 شخصا، أعد بروفيسور اقتصاد يُدعى ماركو بونتي دراسة عن الحادث مستهدفا شركة خاصة كانت تدير الجسر، وقد أثار البرفيسور مسألتين أساسيتين.
المسألة الأولى كانت تتعلق بالأموال، اذ اعتقد بونتي أن شركة «أوتوستراده ايتاليا، أي الطرق السريعة الإيطالية»، جنت أرباحا غير طبيعية، إذ كانت الشركة هي المسؤولة عن إدارة الجسر وأكثر من نصف طرق ايطاليا التي تفرض رسوما على  المرور.
أما القضية الثانية فهو توازن القوى غير المتكافئ بين الشركة والحكومة الايطالية، إذ ذكر بونتي أن الوزارات عجزت عن تنظيم عمل الشركة. وقد وجه ملاحظاته نحو جهة محددة هي: عائلة بينيتون المشهورة بالبلوزات الصوفية وامبراطورية الأزياء العالمية، والمسيطرة على أوتوستراده. غير أن بونتي لم يتمكّن من فضح الشركة لأنّه أجبر على الاستقالة من لجنة الخبراء الحكومية، وتعرض لاحقا الى تهديد من العائلة الثرية برفع دعوى قضائية للمطالبة بتعويض ضخم، ثم تراجعت لاحقا عن تهديدها.
كانت كارثة مدينة جنوى موضوعا لتحقيق جنائي مستمر، وهناك 21 شخصا قيد الاستجواب، منهم تسعة موظفين من شركة أوتوستراده وثلاثة مسؤولين من وزارة البنية التحتية والنقل. لم تكشف القضية اهمالا محتملا فحسب، بل ما يصفه النقاد بالاخفاقات المنهجية في كيفية خصخصة ايطاليا لطرقها السريعة. وقد كسبت الشركة أرباحا هائلة ونفوذا كبيرا لدرجة أن موقف الدولة الرقابي كان سلبيا.
على الرغم من عدم ظهور دليل على التلاعب بنتائج الفحص، لكن تبيّنَ أن الشركة الأم لأوتوستراده هي المالكة لشركة الفحص المسؤولة عن اختبارات السلامة لجسر موراندي. مما لا شك فيه أن عقد أوتوستراده ملائم ومربح بشكل استثنائي لعائلة بينيتون، ويستمر حتى العام 2038 ويسمح للشركة بجمع الرسوم سنويا. يقول خبراء إن ترتيب الفحص غير طبيعي وحكومات أخرى كانت ستطالب بمزيد من الاشراف على الجسور والطرق السريعة المخصخصة.
 
فساد سياسي
رفض مسؤولو شركة أوتوستراده مناقشة أسباب الانهيار لكنهم قالوا إن الشركة لم تدخر جهدا لتلبية متطلبات السلامة. وذكرت الشركة أنّها أنفقت أكثر من 10 ملايين دولار منذ أواخر العام 2015 على صيانة وترميم الجسر. أما بخصوص الاستغلال المالي، فقد ذكر متحدث باسم الشركة أنها ملتزمة بسقف الأسعار منذ فترة طويلة ولم ترفع الرسوم بأكثر من واحد بالمئة سنويا. 
تحول انهيار الجسر الى قضية سياسية متفجّرة في ايطاليا، وسيطرت على اهتمام حركة النجوم الخمس ضمن التحالف الحكومي المشكل قبل أشهر من الحادثة. استنكرت الحركة منذ مدة طويلة عمليات الخصخصة الكثيرة وحدثت معظمها خلال التسعينيات، باعتبارها صفقات محاباة بين سياسيين وأصدقائهم.
تعد حياة وموت الجسر في هذا الصدد مثالا على فوضى ايطاليا السياسية والاقتصادية الحالية، وطريقة التعامل التي أوصلت هذا المستوى. وكان الجسر قد شيّد خلال فترة الفورة ما بعد الحرب العالمية الثانية كرمز للبراعة الهندسية والنمط الجمالي الايطاليين، ومن ثم خصخصت ملكية الجسر عندما شقت البلاد طريقها للخروج من الديون واحتاجت الأموال التي تؤهلها لعضوية منطقة اليورو، وسقط الجسر مع ركود اقتصاد البلاد واحتقار الشعبويين لسياسات الخصخصة.
ونتيجة لأولى مواجهاتها، تعاني عائلة بينيتون من الخزي على المستوى الوطني. فقد أثارت العائلة الجدل منذ سنوات بعد سلسلة من الاعلانات المستفزة والمتحررة اجتماعيا عن ماركات ملابسها، وصوّر أحدها الرئيس الأميركي باراك أوباما وهو يقبّل نظيره الصيني.
رسمت الاعلانات صورة عن العائلة بأنّها كيان ماهر بالتلاعب عبر وسائل الاعلام، لكن عندما انهار جسر موراندي انقلبت تلك القصة، إذ نشرت الصحيفة المعارضة «إل فاتو كوتيديانو» بعد ثلاثة أيام من الحادث صورا للعائلة على صفحتها الأولى وكان العنوان الرئيسي: «نحن ندفع والجسور تنهار وهم يربحون».
 
جبايات الطرق
تم عزل بعض بقايا جسر موراندي كأنّها مسرح جريمة، ويمنع جنود مسلحون وصول أي أحد الى المكان. وبدأ العمال بهدم القسم الغربي، لكن جزءا كبيرا من الجسر سليم وشامخ كما كان سابقا إذ يرتفع نحو 47 مترا فوق مجرى نهر جاف ومواقف سيارات. 
يترادف اسم أوتوستراده مع عائلة بينيتون، لذلك عندما سقط الجسر انتظر الايطاليون ردة فعل أفراد العائلة على المأساة. ثم صدر بيان بعد يومين من الصمت وعبّر عن «تعاطف عميق» مع الضحايا وصدر البيان عبر الشركة القابضة للعائلة.
في آخر مقابلة أجراها قبل وفاته نهاية تشرين الأول من العام الماضي، قال جيلبرتو بينيتون أن الصمت كان اشارة على الاحترام. لكن الرد الصامت أثار غضب الايطاليين، وسجل تشويها حادا لسمعة العائلة عندما قررت البلاد خصخصة شركة أوتوستراده أواخر التسعينيات، ومن ثم رأى الايطاليون العائلة وجها جديدا لطاقة الأعمال الحرة في البلاد.
على عكس معظم الشبكة الايطالية من الرأسماليين، فلم يدرس أي من أفراد العائلة في الجامعة وبدأوا ببلوزة صفراء واحدة حاكتها يدويا جيوليانا أثناء عملها مساعدة في محل قماش. أما اليوم فهناك نحو خمسة آلاف متجر بينيتون حول العالم وتوظف ثمانية آلاف شخصا تقريبا وتبلغ ايرادات العائلة ملياري دولار تقريبا. وأصبح الاسم علامة عالمية، وإن يكن مع بعض المطبات على طول الطريق.
عانت العائلة نهاية التسعينيات أمام بائعي التجزئة واطئي الكلفة، مثل زارا، وبحثت عن تنويع مشاريعها للحصول على مداخيل أكثر ثباتا، وبدا الاحتكار الطبيعي لجباية الطرق مثاليا. كانت تلك بداية مشروع مربح جدا، وعلى الرغم من استمرار ربط العائلة ضمن مخيلة الجمهور بالملابس الكشميرية والسراويل القطنية، لكن خمسة بالمئة فقط من ايرادات بينيتون البالغة 14 مليار دولار تأتي من الأقمشة و50 بالمئة من البنى التحتية.
 
انتهاز الفرصة
اتصفت الخطوة الأولى للعائلة في هذا المجال الجديد بالتوقيت المثالي، اذ كانت ايطاليا تحاول الخروج من الافلاس واحتاجت الأموال بشدة لتقليل الدين من أجل مقايضة اليورو بالليرة. ظهرت محاولة طموحة لخصخصة عدة قطاعات، وأجرت 70 صفقة مختلفة بعائد اجمالي تجاوز 100 مليار دولار.
أسست  شركة أوتوستراده خلال الخمسينيات، وكانت من بين آخر الممتلكات العامة الكبرى المعروضة للبيع. قادت عائلة بينيتون تحالف مستثمرين ودفعوا أقل من ثلاثة مليارات يورو مقابل 30 بالمئة حصة في الشركة، أما الباقي فبيع الى الجمهور عبر سوق المال الايطالية.
بعيدا عن كسب العقود بواسطة العلاقات، كما يدعي مسؤولون حكوميون، هزمت العائلة بسهولة العرض المنافس الوحيد بقيادة بنك نمساوي. لم يهتم كثيرون بالشركة لأن الإطار التنظيمي بدا شاقا، وامتلكت وزارة البنى التحتية والنقل سيطرة واضحة على عمليات الفحص ومعدلات الجباية.
احتاجت ايطاليا ايرادات بشدة الى درجة أنّها استعدت لعقد صفقة بشروط سخية للغاية، ووضعت حدودا سعرية على الجباية لكنها تغيرت باستخدام نظام اعتمد كثيرا على تقديرات الشركة، واستمر العقد حتى العام الماضي ومدّد حتى 2038.
حققت الشركة أرباحا عالية تحت ملكية الدولة، وزادت ربحيتها بعد تحولها الى القطاع الخاص. زادت عائلة بينيتون حصتها في الشركة خلال عام 2003 عندما قادت تحالفا آخر لشراء أغلبية الأسهم. فاذا كانت بينيتون قد استفادت من تلك العملية فالحال نفسه لوزارة الخزانة، فقد درّت الشركة مليارات اليورو على خزائن الدولة ودفعت 600 مليون يورو سنويا على شكل ضرائب شركات وضريبة قيمة مضافة ورسوم تراخيص. تحولت الشركة الى وسيلة حكومية غير مباشرة للاستمرار بفرض ضريبة على السائقين ضمن نظام مدفوع الأجر بالكامل عند خصخصته.
لكن جسر موراندي كان يظهر علامات ضعف، وخضع الى جولتين من الصيانة أو «أعمال استثنائية» على سطحه وبعض الكيبلات الحاملة له. يعد موراندي ملتقى طرق حيوي ضمن شبكة أوتوستراده لجباية الطرق في شمال ايطاليا، ويدرس مسؤولون محليون بناء طريق حولي لتقليل شدة الزحام المروري، لكن الكثير من سكان جنوى لم تعجبهم فكرة مرور هيكل أو طريق حولي قرب منازلهم، لينتهي الأمر الى تأجيل المشروع.
 
استئثار تنظيمي
ويبدو أن أوتوستراده قد أسست مركز نفوذ سياسي، وكسبت سطوة الى درجة أن وزارة البنى التحتية والنقل لا تتمكن من مجاراتها. وقدمت عائلة بينيتون تبرعات سياسية متقطعة لأكثر من حزب لكن ذلك لا يفسّر نفوذ العائلة. فتستطيع الشركة أداء خدمات قانونية مثالية لصالح السياسيين، على غرار تحديث جزء من طريق سريع محلي.
يقول عدة خبراء أن العلاقة المنحرفة أدت الى حالة «استئثار تنظيمي» وهو مصطلح علماء السياسة عندما تعمل جهة رقابية لتحقيق مصالح شركة معينة من المفترض أن تراقبها. خضع عقد الشركة للتدقيق عندما تولت السلطة حكومة يسار الوسط في العام 2006، ومنعت الحكومة الشركة من بيع نفسها الى «أبرتيس» مشغل جباية الطرق الاسباني، ومن ثم أشارت الى ضرورة كبح جماح الشركة.
أقرت الحكومة قانونا جديدا لتشجيع الكفاءة وتقليل الجبايات، لكنه لم يدخل حيز التنفيذ. فقد سقطت تلك الحكومة في العام 2008، وحلت مكانها حكومة محافظة برئاسة سيلفيو برلسكوني وعدلت القانون الجديد لتشترط زيادات سنوية على الجبايات وصولا الى نهاية مدة العقد. 
ظهر سؤال أساسي بشأن ما حدث لعمليات فحص السلامة على جسر موراندي، وكان الجواب هو أن المفتشين عملوا لصالح الشركة أكثر من الدولة. وكانت شركة «سبيا الهندسية» ومقرها ميلان قد نفذت عمليات فحص الجسر منذ عشرات السنين، وهي وإن كانت مستقلة اسميا لكنها مملوكة لشركة «أتلانتيا»، الشركة الأم لأوتوستراده، وهذه الأخيرة هي أكبر زبائن سبيا أيضا. 
 
فشل النظام
تضارب المصالح هذا ممنوع في دول أخرى تشهد مشاريع لأوتوستراده. تحظر قوانين شيلي، على سبيل المثال، مشغل الجبايات الخاص من تعيين شركة يمتلكها لتنفيذ عمليات الفحص، وفقا الى ماريانا روشا المتحدثة باسم وزارة الأشغال العامة الشيلية.
أما بولندا فيستطيع مشغلو جباية الطرق اختيار مفتشيهم لكن يخضع عملهم للتدقيق مرتين. وفي ايطاليا، نادرا ما تنفذ وزارة البنى التحتية والنقل عمليات فحص بنفسها لممتلكات أوتوستراده، وبدلا من ذلك راجعت وثائق قدمتها سبيا.
ألقى متحدث باسم الوزارة باللوم على عقد الشركة، قائلا: إن الوزارة مكبلة منذ سنوات بسبب امتياز غير متوازن للطرق السريعة لصالح صاحب الامتياز. لكن الشركة ردت بالنفي، اذ يشير العقد الى التخلي عن ادارة الطرق السريعة وليس ملكيتها. وتعطي شروط العقد الوزارة بشكل صريح صلاحيات أداء التفتيشات وعمليات الفحص.
يقول أحد الخبراء: إن الوزارة تفتقر للخبرة في تنفيذ دورها الرقابي، وخصوصا على جسر معقد مثل موراندي. ويضيف الخبير أن الحكومة بمرور الزمن تصرفت كأن أولويتها الأولى هي التعاون مع الشركة بدلا من مراقبتها.
خلال الأسابيع التي تلت انهيار الجسر، دعا الزعيم السياسي للنجوم الخمس لويجي دي مايو الى فسخ عقود أوتوستراده وإعادة تأميم ادارة الطرق. لكن هذا الحديث هدأ منذ ذلك الحين، ومع أن العلاقة بين الشركة والحكومة توصف بالعداوة المطلقة، لكن الطلاق غير متوقع. لأن السؤال عن السبب يوضح أنّه اذا تمَّ فسخ عقد الشركة مبكرا فيجب على الدولة أن تدفع لها القيمة المتبقية من العقد، وهو مبلغ يفوق 17 مليار دولار.
 
صحيفة نيويورك تايمز الاميركية