عبد الكريم قادري
يعود المخرج بريان بريسلي في فيلمه الأحدث "الأراضي المعادية" (Territoire hostile)
(94) دقيقة، 2022 إلى أحد أكثر الفترات دموية في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، والمتعلقة بالحرب الأهلية (1861-1865) التي حدثت بين الاتحاد والانفصاليين في إحدى عشرة ولاية جنوبية، وقد خلفت قائمة طويلة من القتلى ومآسٍ لحقت بالملايين، وفي هذا الفيلم لم يذهب بريان صوب الحرب مباشرة، لأن هذا الأمر يتطلب جهداً كبيراً وأغلفة مالية ضخمة، وهو الأمر الذي لا تملكه الجهة المنتجة (Saban Films) التي تم تأسيسها حديثاً، لهذا تناول إفرازات هذه الحرب على الأسر، وخاصة الأطفال منهم، منطلقاً من قصة ذات أحداث حقيقية،
ويتعلق الأمر بالقطار الذي كان يشق أميركا من أجل نقل أطفال الحرب اليتامى، هؤلاء الذين فقدوا أسرهم وآباءهم في متونها، وقد سلط المخرج وكاتب السيناريو براين بريسلي الذي لعب دور البطولة أيضا، الضوء على أسرة جاك كالغروف (أدى الدور براين بريسلي) الذي تم استدعاؤه من قبل جيش الاتحاد للمشاركة في الحرب ضد الانفصاليين، برفقة ابنه الأكبر فيل (كوبر نورث)، بينما ترك زوجته وثلاثة من أطفاله الصغار خلفه، لتصل رسالة بعد شهور إلى زوجته تفيد بموته في متون الحرب، وبعدها أصيبت هي الأخرى بمرض السل وتوفيت جراءه، ليبقى الأطفال وحدهم في البيت بلا معيل، لهذا يقرر الضابط أندرو لي (مات مكوي) الذي يعمل في منطقتهم ترحيلهم عبر القطار الذي يطلقون عليه "قطار الأيتام"، من أجل إلحاقهم بأخيهم الأكبر الذي سينقلهم إلى الأرض التي أعطتها له الحكومة بعد انتهاء الحرب، ووسط كل هذا سيتم نقلهم وسط أراضٍ معادية، خاصة من قبل الأهالي الغاضبين الرافضين للسلم وانتهاء الحرب، ومن الهنود الحمر الذين يدافعون هم أيضا عن المناطق التي تم الاستيلاء عليها من قبل الحكومة، ولقد تبين لاحقاً بأن الأب كالغروف كان أسيرا عند الانفصاليين، وأن خبر موته لم يكن سوى خطأ، ليتم إطلاق سراحه برفقة رجل أسود شارك هو أيضا تحت راية الاتحاد، وقد تم تحريره من العبودية وهو ديزموند رتشاردز (كرغ تاتي)، ولكن عند عودته وكله شوق لأسرته وجد بيته فارغاً، وسمع بعدها بخبر قطار اليتم، لينطلق في رحلة لاستعادتهم برفقة ديزموند وامرأة أخرى تبحث هي أيضا عن ابنتها التي ذهبت في هذا القطار، وبدؤوا في خوض المخاطر لاسترجاع أطفالهم من قبضة الهنود الحمر الذين قتلوا بعضهم وأسروا الباقين.
تنعكس قوة فيلم "الأراضي المعادية" في التفاصيل الصغيرة التي عكستها القصص الثانوية العاطفية، مثل الفتاة آيدي (أوليفيا سانت بيتر) التي تبيع جسدها من أجل لقمة عيشها، وعندما التقت بفيل كالغروف كانت تظن بأنه يسعى لجسدها، لكنه أراد فقط الاستماع لقصتها ومقاسمة حزنها في غرفتها، لهذا بفضله تركت هذا العمل الظرفي واتجهت معه للأرض الموعودة، إضافة إلى الطفل المصاب بمتلازمة داون والذي لم يجد من يتبناه، وهذا عندما وصل قطار اليتم وأخذت الأسر الأطفال بينما بقي هو ينظر، وغيرها من المظاهر التي تشحن العاطفة وتجلب التعاطف وتمد جسرا تواصليا بين موضوع الفيلم وبين الجمهور، وهذا حتى يتم استيعاب القصة وفهم أبعادها بطريقة جيدة.
ولقد استغل المخرج بريسلي الظرف التاريخي الذي تمت معالجته في الفيلم ليعكس من خلاله الجماليات البصرية (تم التصوير في منطقة كلورادو)، من خلال المشاهد البانورامية التي ضبط زواياها وتأطيرها المصور مارك ديفيد، وقد أسهمت هذه المشاهد في زرع نوع من الطمأنينة لدى المشاهد، خاصة أن المناظر الممتدة وصوت الطبيعة الذي تعكسه الأنهار والثلوج والسهول والغابات يعيد المرء إلى منطقة معينة من العقل الباطن، حيث يستحضر الهدوء ويحكم القلب في التلقي، خاصة أن الفيلم يحتفي بالعواطف والانفعالات البشرية التي تحدث جراء الفقد والحزن والدموع والدماء، وهي المعطيات التي تحدثها الحرب في أي نقطة من العالم وفي أي وقت.
فيلم "الأراضي المعادية" تجربة سينمائية تحاول أن تخرج من الرواق الإنتاجي الكلاسيكي الذي ترفضه عادة شركات الإنتاج الكبرى بهوليوود، وقد حاول المخرج وكاتب السيناريو والممثل الرئيس براين بريسلي أن يكسر هذا الخط المرسوم، ويؤسس لنهج مستقل يعتمد فيه على القصص الأقل تكلفة، ويتم تنفيذها بأسماء وممثلين غير معروفين، ويعتمد بالأساس على عاطفية القصة وقربها من قلب المشاهد، حتى يترك فيها أثراً انفعالياً يمكنه من زرع القيمة التي يبحث عنها ويسعى لها.