سالم مشكور
تستضيف مقابر الكثير من الدول، خصوصا المجاورة، جثامين رموز عراقية في الأدب والعلوم ومعارف الدين، ممن هاجروا من بلد طارد لأبنائه على الدوام. مؤسسات دول العالم تضم الكثير من العقول العراقية التي قمعت في عراقها، على مر العصور، ووجدت في المنافي من يقدرها ويكرمها.
في سوريا يشكل العراقيون غالبية سكان مقبرة حملت اسم “مقبرة الغرباء” فيها من الأسماء العراقية البارزة كالجواهري ومصطفى جمال الدين وآخرين، وعلى مقربة منهم، وبجوار مقبرة محيي الدين بن عربي يرقد الشاعر عبد الوهاب البياتي. هكذا الحال في كثير من الدول التي كانت منافي للعراقيين على مر العقود. أغلب الرموز العراقية كانت تتمنى أن تدفن في الوطن، حتى لو كانوا عانوا الكثير من العذاب فيه. العراق له سحر، حتى لزواره والمقيمين، فكيف بأبنائه الذين ولدوا فيه وعاشوا وعانوا. سابقاً كانت حتى العودة ميتاً ممنوعة، فصارت عرفاً حتى بعد زوال الدكتاتورية، التي زالت شخوصا وعناوين وبقيت في نفوس الكثيرين ممارسة وتفكيراً، باستثناء حالات نادرة.
ما حدث مع جثمان شاعرنا الراحل الكبير مظفر النواب من اهتمام حكومي بدأ من الامارات واستكمل في استقبال الجثمان وتشييعه الرسمي، يمثل بارقة أمل في شيوع ثقافة جديدة على العرف العراقي، رغم ترسّخها في الكثير من الدول. الرموز التي ترفع اسم العراق تصبح هي رموز العراق وليست ملك أصحابها، ومن يكرّمها إنما يؤكد حضارية البلد واحترامه لذاته وتاريخه الذي سيشكل هؤلاء جزءاً منه. ترسيخ هذه الثقافة سيعالج خلا كبيراً نعانيه في العراق، وهو أننا لا نرفع مبدعا ولا ندعمه بل نشغّل معاولنا لتدميره، والبحث عن معايبه وإن لم نجد عيباً له اختلقنا له عيوبا ومثالب، يساعد على نشرها وتحويلها إلى حقيقة، وسائل التواصل الاجتماعي وشيوع ثقافة التصديق والترويج دون وعي، ونزعة التسقيط التي باتت جزءاً من السلوك العام
للأسف.
لكن ما حدث أثناء التشييع من ممارسات لا يمكن الدفاع عنها بالقول إنها تعبير ديمقراطي وحريّة مصون، أصابنا بالخيبة. ليس هذا الحق متاحا في كل حالة ومقام. كان إساءة إلى الراحل الذي يستحق من كل العراقيين تشييعا مهيباً يليق بقيمته شخصيا، وبهيبة بلد أملنا أن يتغير سلوكه من طرد الرموز وملاحقتهم إلى قبورهم، إلى بلد يحترم رموزه الذي يخلدهم الآخرون أكثر من العراقيين.
هذه واحدة من افرازات نهج خاطئ يقوم على استخدام مراهقي الشارع في الخصومات السياسية. أسلوب لن يكون أحدٌ في منأىً
منه.