الشعراء لا يموتون

آراء 2022/05/25
...

  نرمين المفتي 
 
ﻣﺎﺫﺍ ﺳﻴﺤﺼﻞ ﻟﻮ ﺗﺤﻮﻟﻨﺎ ﺇﻟﻰ ﺑﻼﺩ..؟
 ﺃﻧﺎ بغدادُ ﻭﺃﻧﺖَ ﺍﻟﻘُﺪﺱ،
 ﻳﻤﻴﻞُ ﺭﺃﺳﻲ ﻋﻠﻰ ﻛﺘﻔﻚ ﻗﻠﻴﻼ.
 ﻓﺘُﺰﻫﺮ ﺩِﻣﺸﻖ ﻭﻳﺴﺘﻘﻴﻢ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ.
هذه ليست قصيدة، إنما مظفر النواب نفسه، فقد عبر عن احساسه وموقفه تماما منذ أول محاولة هروب له في 1963، اذ حاول الوصول إلى (الاتحاد السوفيتي) مرورا بايران، حيث اعتقلته السلطات هناك وسلمته إلى السلطات العراقية التي حكمت عليه بالإعدام ومن ثم خففت الحكم إلى سجن مؤبد. 
أمضى فترة في سجن (نقرة السلمان) ونقل إلى (سجن الحلة) الذي تمكن من الهروب منه.. وقبل قرابة خمسة عقود غادر العراق، متجولا أو غريبا،  في دول عدة عربية وغيرها في قارات ىسيا وافريقيا وأوروبا والأميريكيتين الشمالية والجنوبية.. طوال غربته او منافيه القسرية، استمر ثائرا، باحثا عن منطقة عربية حرة يحترم كرامة مواطنيها وتضم القدس. لم يهادن في مواقفه، هاجم بقصائده جميع الانظمة والأحزاب وبينها الحزب، الذي انتمى اليه في بداياته الادبية والسياسية. 
لكن العراق استمر يسكنه "أصابحُ الليلَ مصلوباً على أملٍ / أنْ لا أموتَ غريباً ميتةَ الشبح"، و"صرت شوقاً مخيفاً/ لكثرة ما اشتقت يا وطني/أن أحط على كل باب خدودي وألثمها/ ويدي مثلما شفتي هاتفة".. وحتى رحيله غريبا، لم يحط خدوده على كل باب، حتى حين زار العراق لفترة قصيرة في 2011، كان وهو يعاني الشلل الرعاشي شامخا كما شعره، ولم نعرف إن كانت معاملة تقاعده قد أنجزت له او لم تنجز! فهو لم يطالب بأكثر منها، فالمواقف غير قابلة للبيع.. 
توقفت عند برقيات التعزية التي نشرها المسؤولون على تويتر وهي تودع بحزن الشاعر العراقي الكبير، وبينهم من زار بمهمة رسمية او غير رسمية الامارات، حيث رحل الشاعر في أحد مستشفياتها في الشارقة ولم نسمع أنهم زاروه للاطمئنان عليه وتحيته. ولم نسمع أن مسؤولا عراقيا كلف السفير العراقي بمتابعة حالته ووضعه الصحي، سواء في الامارات او حين كان في سوريا! لم يقترح اي مسؤول اقامة نصب له او اطلاق اسمه على شارع في بغداد لتكريمه  في حياته، وإن كان يعرف بأن افضل تكريم له هو حب العراقيين خاصة والعرب عامة وكل من قرأ شعره، الذي حتى الحب والحزن فيه ثائرون. 
لا أدري إن تمكن هؤلاء أن يجعلوا العراقيين يصدقون حزنهم وأسفهم على رحيله؟ لكنهم، أقصد العراقيين، يعرفون أن المسؤولين يستغلون أية فرصة،  ليكونوا في الصورة حتى لو كانت مناسبة حزينة، فالكل يتسابق اما ليشاهده العراقيون او يحاولون ايصال رسالة لبعضهم البعض وايضا من خلال المناسبة وليس للعراقيين في هذه الرسائل او الظهور أية فائدة او مصلحة. 
وصدمتني كما صدمت غيري الصورة التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي للمكان الذي رقد فيه الشاعر.. الورد من البلاستيك وتم الصاق صورته على (كرتونة) سمراء معلقة بـ (شيش) حديد! هل أتمنى زراعة شجرة قربه؟ شجرة بن، مثلا، خاصة وهي دائمة الخضرة، ليستمر يسمع دق القهوة ويشم رائحة الهيل التي تحمل رسائل حب، حتى لو ابتعد (الريل) ولم يعد للقطار صوته الشحي وهو يمر فجرا.. 
أشارت الروائية احلام مستغانمي في رثائها للشاعر إلى مقولة لجان كوكتو، المبدع الفرنسي المتعدد المواهب ومن بينها الشعر، في فيلم صوّر فيه مسبقا جنازته يتوجّه فيها لأصدقائه " لا تبكوا هكذا، تظاهروا فقط بالبكاء. فالشعراء لا يموتون، إنهم يتظاهرون بالموت  فقط .