{المَدفَن} مُستعِر أعظم يهدد كوكب الأرض بالفناء

الصفحة الاخيرة 2022/05/30
...

  عدنان حسين أحمد
تقتحم المخرجة الليتوانية أميليا سكارنوليته في فيلمها الوثائقي الجديد ( Burial ) عالما مقلقا ومثيرا للفزع الدائم علما بأن الولوج إلى المنشآت النووية، إلى وقت قريب، كان محظورا إلا بحدود ضيقة جدا. لا بد من الأخذ بعين الاعتبار أن سكارنوليته هي فنانة بصرية ومخرجة أفلام غير تقليدية تنهمك في المساحة الرمادية التي تربط الوثائقي بالروائي فلا غرابة أن تقدم في اللقطات التمهيدية لهذا الفيلم صورا وتكوينات تبدو مستعارة من الفن التشكيلي بينما استوحتها في واقع الحال من أزمان كونية وجيولوجية موغلة في القدم لكنها سوف تترك تأثيرها الفتاك على البشرية خاصة، وعلى كوكبنا الأرضي بشكل عام.
 
يجمع هذا الفيلم الاستقصائي بين التكنولوجيا، والبيئة، والتاريخ، والكوارث المحتملة التي يمكن أن تُسببها المحطّات النووية المبثوثة في أرجاء الكرة الأرضية، إذ تقدّم لنا المخرجة معلومات استقتها من هنا وهناك لتغذّي مخيلتنا بتصورات قد تكون أقرب إلى الخيال العلمي حين تتحدث لنا عن كيفية تكوّن اليورانيوم من تفجيرات "المُستعِر الأعظم" أو السوبر نوفا قبل 6.6 بليون سنة تقريبًا، وكان هذا المعدن اللعين جزءًا من الغاز المدوِّم وغُبار الفضاء الذي تكوّنت منه الأرض. ثم تُعزّز المشاهد بمعلومة أخرى تقول بأنّ الاتحاد السوفيتي السابق قد استخرج سراً اليورانيوم الخام من منطقة كواري البولندية منذ عام 1951 حتى 1963، وقد تسرّبت الأخبار بأن العديد من عمّال المناجم قد ماتوا بسبب تعرّضهم للنشاط الإشعاعي لأوكسيد اليورانيوم. ثمة ثعبان كبير جدًا يتحرّك في مياه هادئة في أعماق الأرض وله دلالة مجازية سوف تتضح في نهاية الفيلم.
على الرغم من تمحور الفيلم على منشأة إگنالينا Ignalina للطاقة النووية في ليتوانيا إلاّ أنّ المُخرجة تتوسع في بحثها ليشمل محطات ومراكز أبحاث نووية أخرى مثل موُز Meuse في فرنسا وحدائق بايا Baia المغمورة بالمياه في إيطاليا، كما تعرّج على تشيرنوبل بوصفه التوأم الشقيق لمحطة إگنالينا التي سيكون تفكيكها هو الشرط الوحيد الذي يُتيح لجمهورية ليتوانيا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ومن أبرز المعلومات التي تنطوي عليها هذه المنشأة النووية التي تُعدّ الأعظم في العالم، لأن السوفيت صمموا فيها مفاعلاً عالي الطاقة بقنوات متعددة يُطلقون عليه RBMK- 1500 وينتج 12, 26 بليون كيلو واط من الطاقة الكهربائية كحد أقصى.
بدأ الليتوانيون بتفكيك هذه المنشأة عام 2010 وأفرزوا في أثناء عملهم المضني والدقيق آلاف الأطنان من الأدوات والنفايات الكونكريتية، وبحلول عام 2030 سيصل حجم المخلفّات إلى 3,544,000 متر مكعّب من الأنقاض والكونكريت المسلّح.
ثمة معلومة أخرى تفيد بأنّ مفاعل رقم 4 في محطة تشيرنوبل قد غُلِّف في عام 2019 بحاوية حديدية ضخمة تصمد لمدة 100 سنة لا غير بينما تبقى قدرة المادة النووية على البقاء لمدة تتراوح بين 10,000و 100,000سنة. وهذا الأمر ينسحب على فرنسا التي تحتفظ بـ 70,000 طن من المخلفات النووية في أعماق قد تصل إلى 500 متر وتغطي مساحة 600 هكتار بضمنها 250 كلم من الأنفاق المرعبة التي توحي للمُشاهد أنّ بإمكانها أن تنسف الكرة الأرضية برّمتها. لقد كشفت كارثة تشيرنوبل هشاشة المحطات النووية ليس في الاتحاد السوفيتي السابق فحسب وإنما في العالم كله فقد حدثت كوارث في منشآت نووية أخرى في اليابان وأميركا ولا يعرف المواطن العادي حجم الخطورة وطبيعة التسريبات الاشعاعية بشكل دقيق.
تصوِّر المُخرجة لقطات ومَشاهد الفيلم بشكل أفقي وعمودي، كما تستعمل تقنية "عين الطائر" لتصوير بعض اللقطات للأبراج وخزّانات الوقود وغيرها من المرافق والأبنية النووية بكل ما تنطوي عليه من أجهزة ومعدات فنية عملاقة ومعقدة. وقد رأينا بعض المَشاهد الدقيقة لخبراء وفنيين يرتدون البدلات الواقية من الخطر الإشعاعي وهم يفككون بحذر شديد قطعًا وتروسًا حديدية ضخمة تجد طريقها إلى مدافن النفايات النووية بينما تعود الأفعى الكبيرة لتنزلق على ألواح السيطرة والتحكم وكأنها تقول لنا بلسان فصيح إنّ هذه المحطات النووية يمكن أن تلتهمنا جميعًا ذات يوم.
على الرغم من خوف سكارنوليتّه وخشيتها على الإنسان إلاّ أنها تُبدي قلقًا كبيرًا على الكوكب الذي نعيش عليه وننعم بخيراته ومصادره اللامحدودة، فلاغرابة أن تحذّرنا من الأخطار الجمّة التي قد تحوّل الأرض إلى "مُستعر أعظم" جديد يفضي بنا وبكوكبنا إلى العدم. يعود الثعبان الكبير لينزلق مرة ثانية على ألواح التحكم المهجورة في محطة إگنالينا وكأنها تُذكِّرنا بأنّ المواد المُشعة هي أشبه بالوحش الكاسر الذي سوف يعيش مع أجيالنا المقبلة لملايين السنين إن لم نضع حدًا للمخاطر الجسيمة التي تتربص بنا في مختلف أرجاء المعمورة، وسوف ينزع هذا الثعبان جلده في إشارة إلى خلوده الذي يشبه ديمومة الإشعاع النووي إلى الأبد، أو يلتف على نفسه ويأكل ذيله ثم يأتي على جسده بالكامل.
تعتمد سكارنوليتّه على تقنيات متعددة خاصة في أفلامها السابقة مثل السونار، والاستشعار عن بُعد، ومسح قاع البحر لاستكشاف الهياكل المطمورة فيه مثل متنزّه بايا الذي أشرنا إليه سلفًا والذي أغرقته المياه بسبب الأنشطة الزلزالية في البحر الأبيض المتوسط.
أنجزت أميليا سكارنوليتّه ثمانية أفلام وثائقية لم تفرّط بالخيال والسردية الروائية، كما حققت فيلمين آخرين بالاشتراك مع الفنانة الكندية تانيا بوس، والفنانة البيئية الأميركية من أصل ليتواني ألكساندرا كاسوبا. وقد توزعت ثيمات أفلامها بين الكونية والجيولوجية والبيئية من دون أن تهمل الجوانب السياسية. وهي غالبًا ما تمزج الخاص بالعام كما هو الحال في فيلم "ألدونا" الذي يحمل اسم جدتها التي فقدت بصرها بشكل دائم إثر تسمم الأعصاب في عينيها وقد زعم الأطباء في حينه  أنّ السبب يعود إلى انفجار محطة تشيرنوبل النووية عام 1986. ومن بين أفلامها الأخرى "العودة الأبدية" و "متلازمة حورية البحر". و "الزمن الدائري" بالاشتراك مع الفنانة ألكساندرا كاسوبا.