الظلم المضاعف

اسرة ومجتمع 2019/03/24
...

حسين الصدر 
- 1 -
قال الشاعر :
 
وظلمُ ذوي القربى أشدُّ مضاضةً
 
على المرء مِنْ وَقْع الحُسام المهندِّ
 
الظلمُ بكل صوره وأشكاله قبيح مذموم ، ولكنّ ظلم الأقارب يكون أشدّ على النفس من غيره ، فهم بَدَلَ أن يكونوا نبع الحنان المتدفق ..، وان يغمروا قريبهم بنسائم المودّة والرعاية ، وأشذاء الحب،قد يقلبون له ظهر المجنّ ، ويُذيقونه الكؤوس المُرّة كأساً بعد كأس ، ويتركونه يئن من أوجاعِهِ ويصلى بنيران الإساءة والعدوان .!!
 
واذا كان ظلم الأقرباء مرفوضاً بالمطلق، فكيف يكون ظلم الابناء لآبائهم؟
 
انّ مرارة الاب من استهانةِ ابنائِهِ به لا تستطيع الحروف ان تعبّر عنها بالشكل الوافي .
 
- 2 -
وعقوق الابناء لآبائهم مسألةٌ ذاتُ جذورٍ عميقة في التاريخ ، وليست بجديدة.
 
انها التعبير الصريح عن النذالة والسفالة البشرية في أبشع صورها وألوانها 
 
- 3 -
واذا كنا مأمورين أنْ نردّ التحية بمثلها أو بأحسن منها لسائر الناس، فكيف بنا مع أبائنا، الذين ضحوا وكافحوا وتعبوا وأفنوا حياتهم من أجل راحتنا وسعادتنا ؟!
 
- 4 -
لقد عثرت على رسالة كتبها أبٌ أفنى عمره من أجل سعادة أبنائه، ووفّر لهم من الامكانات المالية ما جعلهم يعيشون في بحبوحة كاملة ، ولكنهم خذلوه وتركوه طريحاً في مستشفاه يئن من الاوجاع والآلام ، وأكبر أوجاعِهِ اهمالُ ابنائِهِ له مع ما قدّم لهم من الثروة ..!!
ومن المفيد أنْ ننقلها لكم لتقفوا بأنفسكم على ما جاء فيها ، فقد كتبها الرجل بلغة أدبية مؤثرة ، الى صديق له يشرح له ما يعانيه :
( أنا الان ممدد في غرفتي المَرَضِية الموحشة ..
 
وكأنني انتظر نهاية حياتي 
 
كل شيء من حولي يصيبني بالكآبة .
 
يقولون : المرّض سلطان ، وانا أقول :
 
انه سلطان جائر لا يُصيبك منه غير الآلام والحمى والأرق والملل .
 
وأنا أتلوى في حجرة المرض هل تصدق ؟
 
انا في وحدتي وحدي 
الممرضون أصابهم الملل من نداءات استغاثتي لتخفيف الآلام التي تستعر في جرح عمليتي بالقلب المعذب ، المتعب ،المنهك ، ولست أعني به معذبَ جراء العملية الجراحية فقط انما العذاب الأكبر يأتيني من صدود أبنائي وبناتي .
ففي الوقت الذي أشعر فيه بالحاجة الى الابناء مِنْ حولي في غرفة المرض يتحدثون معي ويخففون عليّ وحشة سرير المرض، فاني وجدتهم أناسا جاحدين .
 
انت تعلم كم جاهدتُ وشقيتُ وحرمتُ نفسي من جميع متع الحياة ، اشتغلتُ لجمع الثروة موصلاً الليل بالنهار ، منتقلاً بباصات العمومي حتى اتهمني الناس بالبخل والتقصير .
 
عشقتُ العمل وأفنيت عمري فيه ، وحمّلت زوجتي قبل رحيلها شقائي ،
 
حتى صرتُ من أصحاب الثروة والممتلكات والضياع المترامية الأطراف .
 
ولكني أرخيتُ يدي للابناء فراحوا يرفلون بالنعيم وبالعز في قصرهم المنيف .
 
البنات مهوسات بالموضة وبالاساور والاكسسوارات والساعات الغالية بالثمن .
 
والاولاد لاَهَّم لهم ولا شغل يشغلهم سوى تبديل السيارات الفارهة بأخرى أغلى واثمن واكثر رفاهية ، فضلاً عن السفر لمختلف بلدان العالم للمتعة والاستماع واللهو واللعب والمرح ،
وأراني الان في وحدتي أرقب الباب لزيارة منهم، وإن حصلت سرعان ما تنتقل عيناه الى ساعتِهِ للانصراف الى شأنه الخاص ، ناسيا هو واخوتُه أو متناسيا هذا الهيكل الممدد يدور بعينيه المتعبتين في غرفته المرضية الموحشة .
بل انني حينما احتجتُ الى دم ، لم يسع احدٌ منهم انما سعى حارس البناية المجاور لمنزلنا .
الأن انا ادرك كم أخطأتُ بحق نفسي وأشعر بالندم على ما اقترفتُه بحق زوجتي، لا شك انني أتعبتُها وانهكتها قبل رحيلها بنمط حياتي وهوسي بالعمل وجمع الثروة وحرمان النفس من متع الحياة .
 
كنتُ أظن ان الثروة تجلب لي الصحة والسعادة ، غير انها لم تأت لي بايّ منهما .
ويبدو لي الآن انني كنت أطعم ابنائي الزيتون ولكن لم اطعمهم معه البر بالوالدين وبالرحمة بالناس .
وهكذا تراني على عتبته الثمانين أرقب مع قلبي العليل الرحيل عن هذه الدنيا وأنا أتأسى بالآية الكريمة (يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون ) 
{ تأملات في عمر الثمانين ص 80 -81 ) 
 
أقول :
انّ هذه الرسالة الملآى بالاشجان هي وثيقة اعتراف بسوء التدبير والتقدير، 
وهي صريحة في انّ الرجل كان شديد العناية بالأمور الدنيوية بعيداً عن أشواق الآخرة وطيوف الجنة ، فجاءت النتائج المرعبة نتيجة طبيعيّة لتلك السياسة العرجاء ...
ومن هنا ترى الصالحين يدعون ربهم ليل نهار :
“ اللهم أرزقنا حسن العاقبة “