سكوت دافي*
ترجمة: مي اسماعيل
كان العرض الأول لباليه "طائر النار" للمؤلف الروسي "إيغور سترافينسكي" يوم الخامس والعشرين من حزيران 1910، على مسرح باليه باريس؛ ولاقى استحساناً كبيراً. وأهّل ذلك النجاح المؤلف الشاب حينها (28 سنة) لبلوغ شهرة عالمية احتفظ بها نحو ستة عقود، تدور قصة الباليه الأسطورية عن طائر النار "Firebird" الذي يساعد أميراً شاباً لإنقاذ عدة أميرات من الساحر الشرير كاشتشي، ورغم استنادها إلى أسطورة الطائر الفولكلوري الروسي؛ روجت المقطوعة الموسيقية في النهاية لأساطير خاصة بها؛ تنتمي للمُثُل الفنية لمن قدمها، والدقة التاريخية
للسرد. لكن الأهم هو أن الملحن نفسه (ضمن مسار التفاصيل المتتالية لسيرته الذاتية) شارك في صناعة الأساطير على نطاق واسع. وقد تجدر الإشارة إلى ما وصفه خبير موسيقى سترافينسكي "ريتشارد تاروسكين" بأنه "كذبة مشهورة"؛ إذ ظلت الأسئلة تدور حول ما إذا كانت بعض الأفكار الموسيقية المبكرة للملحن أصلية بقدر ما تبدو.
"الحداثيون" المحافظون
انطلقت مهنة سترافينسكي بعد "طائر النار"؛ خاصة في عمليه "بيتروشكا" و"طقوس الربيع". (The Rite of Spring) ونظرا للأثر الذي أحدثه هذا العمل الأخير بات من المألوف ملاحظة تأثير المؤلف المحوري في تطور الحداثة الموسيقية.
لكنه مع ذلك كان سنة 1910 لا يزال صوتا مبتدئا غير مُجرّب، كان "طائر النار" إنتاجاً لشركة "الباليه الروسي" حديثة التكوين، وكان مديرها المصمم الروسي "سيرجي دياجليف".
لكن المُثُل الفنية للشركة لم تكن حداثية؛ بل ضمت مجموعة من المحافظين الذين كانت لبعضهم خلفيات أرستقراطية، مع ميول نحو القومية الرومانسية، اتحد هؤلاء ضد الحداثة "الواقعية" للجيل السابق، والحداثة الروحية المتطورة للملحنين الروس الآخرين.
نظر دياجليف إلى ماضي روسيا بحثاً عن مصادر لسلسلة مشاريع موجهة للجماهير الباريسية العام 1906. وبعدما اكتشف ارتفاع تكلفة إنتاج الأوبرا؛ استقر حصرياً على الباليه منذ العام 1910.
لكن اختياراته الموسيقية كانت متحفظة في البداية.
إعادة توجيه الأساطير
ليست الطيور السحرية بالجديدة الحضور في الفولكلور؛ إذ ظهرت في حكايات الطفولة للعديد من البلدان مثل ألمانيا، لكن لطائر النار مكانة خاصة في روسيا؛ إذ برز بوصفه رمزا قوميا خلال العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر. واتصف بكونه طائرا فائق الجمال، يُعرّض من يحاول الإمساك به أو سرقة ريشه المتوهج للخطر. لكنه في باليه الشركة الروسية يساعد الأمير بدلا من إيذائه؛ بعد دمج الأسطورة الأولى مع أخرى ضمت الشرير كاشتشي (الذي يموت أخيراً على يد الأمير).
موسيقى جديدة
انسحب ثلاثة مؤلفين موسيقيين من المشروع (لصعوبة العمل مع مصمم الرقصات " ميخائيل فوكين")؛ وكان ذلك من حُسن طالع سترافينسكي الذي آل الأمر إليه، كان سترافينسكي تلميذا لــــ"نيكولاي ريمسكي كورساكوف"؛ أهم مؤلفي الموسيقى الروسية، والذي لم تكن أعماله الأكثر تقدمية معروفة في الغرب. جاء في سيرة فوكين الذاتية (التي كتبها بنفسه) أن سترافينسكي جلس إلى البيانو مرتجلا ومتماشيا مع فوكين أثناء ابتكاره أفكار العمل، وإذا كان هذا صحيحا فإن سترافينسكي لن يسمح لنفسه ثانية قط أن يظهر بموقع "الكادر المساعد" في العملية الإبداعية، العامل الأكثر بروزا هنا أن سترافينسكي قدّم موسيقى نغمية ومتناغمة إلى الشخصيات البشرية (الأمير إيفان تساريفيتش والأميرات)، بينما خصص موسيقى مستقرة غير متقلبة النغم للشخصيات الأخرى الخارقة للطبيعة، وهذا التشكيل البارع تقليد روسي في الحقيقة؛ ويمكن تتبعه حتى أوبرا "رسلان ولودميلا- 1842" للمؤلف "ميخائيل جلينكا".
درس سترافينسكي (وهو الطالب شديد الانتباه) بدقة الأعمال الموسيقية المبتكرة وغير متكررة النغم لريمسكي كورساكوف؛ إذ كان ذلك الأسلوب سائدا أيضا، وركّز بالتفصيل على إحدى نظريات كورساكوف لإنشاء ما يسمى "سلم الأثلاث". وكشف تحليل علماء الموسيقى في العقود الأخيرة أن تلك الخطة تدعم أجزاء كبيرة من موسيقى "طائر النار". يولد النمط المتناوب الغريب للأثلاث موسيقى خارقة للطبيعة في المقدمة، و"دوامات" نغمية للطائر وأنماطاً حركية للشرير. كما أدخل سترافينسكي ألحانا شعبية في بعض المواقع؛ وهو تقليد شائع آخر لدى المؤلفين الروس.
النجاح
النقطة الأهم هنا أنه بالنسبة للجماهير في الغرب، حقق "طائر النار" نجاحا كبيرا؛ إذ نُسجت هذه الحكايات الخيالية من ماضي روسيا (بشكل عرضي تقريبا على ما يبدو) في عمل موسيقي بدا على الأرض الأجنبية حديثا بشكل غير متوقع. بقي التطور المتأخر للموسيقى الروسية لمدة قرن مختفيا نسبيا عن باقي العالم؛ فكشف سترافينسكي عن العديد من كنوزها، وبدا الأمر وكأن شعلة انتقلت من جيل إلى آخر بأصغر الخطوات؛ وكانت عبقرية سترافينسكي الحقيقية هي أنه جرى معها طويلا وبسرعة.
* موقع "ذا كونفيرزيشن"