مدينة تغني حتى الصباح

الصفحة الاخيرة 2022/06/01
...

سامر المشعل 
منذ نزوح أهالي الجنوب من الريف إلى أطراف العاصمة بغداد، في أربعينيات القرن الماضي، حتى استقرارهم في بيوت يتوافر فيها الماء والكهرباء في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم، بمدينة تعد الأكبر من بين مدن العراق قاطبة، إذ وصل تعداد سكانها إلى ثلاثة ملايين نسمة، كانت تسمى سابقاً مدينة "الثورة"، ومدينة "الصدر" حالياً. كانت هذه المدينة تعشق الأغاني والموسيقى والرقص والرياضة والسينما والثقافة والفنون عموما، ومن أول طموحات شبابها أن يحصلوا على جهاز تسجيل "فيليبس" يسمعون فيه ما يحلو لهم من أغانٍ.
ليلة الخميس كان لها وقع خاص من بين الليالي، فعادة ما تقام الأعراس والأفراح في هذه الليلة، فيتسرب الخبر من أول النهار:"أن المغني الفلاني سوف يغني في عرس بيت فلان" ، ربما يكون سعدي الحلي، أو سلمان المنكوب، أو عبادي العماري، أو نسيم عودة، أو عبد محمد، أو هاني الكرناوي، أو فاهم الجميلي، أو فرج وهاب، أو عبد الحسين اللامي.. الخ.
كانت تقام الأعراس في الشارع أمام بيت العريس بوضع كراسٍ من الحديد، والسماعات "مكبرات صوت" تعلق على السطوح، ويكون الاحتفال عبارة عن مهرجان مفتوح لمن يرغب بالحضور والاستماع والمشاركة، وعادة ما يحيي الحفل أكثر من مغنٍ، وعندما يكون هناك مغنٍ مشهور ومحبوب من قبل الناس، فإن الجمهور يأتي من قطاعات أخرى لحضور الحفل، فيشترك الجميع بالرقص وعلى طريقة "البزخ" ، عندما يتصاعد الايقاع وترتفع النشوة، تتسع مساحة الرقص لدى الشباب، ولم تكن هناك تابوات اجتماعية أو عرفية تمنع الشباب من أن يمارسوا الرقص، إلا اللهم الحياء الشخصي.
فكانت هذه المدينة تفتح نوافذها للفرح والغناء والرقص، إلى الصباح، وتبالغ أحيانا في أفراحها لتمتد إلى عدة أيام، ولم يكن الغناء لديها متأتياً من حالة من الترف أو لغرض التسلية، إنما كان الغناء يمثل العزاء والسلوى والمتعة بالوقت ذاته.
الحديث عن مدينة "الصدر" أيضاً ينطبق على أغلب مدن العراق الشعبية، هذا السرد ربما يحرك الساكن في ذاكرة من عاشوا هذه الليالي والأيام لهذه المدينة الاستثنائية بسرديات وحكايات تطول لصفحات ملونة بالمتعة والمفارقات الغريبة، وبالوقت ذاته يبث فيهم الحزن واللوعة والاستغراب، كيف تحولت هذه المدينة الضاجة بالحياة والمواهب والطاقات في الشعر والموسيقى والغناء، والاستعداد المبكر للحب والمغامرة، إلى مدينة موشحة بالحزن والحداد يغلفها الضياع والعدمية والإحباط والاستعداد المبكر للموت والتضحية. حتى حولها المتاجرون بالسياسة والدين إلى مدرج لتنفيذ رغباتهم السادية والتسلطية.