تيتانيك عراقيَّة !

آراء 2019/03/24
...


عبدالزهرة محمد الهنداوي 
ابتداءً، لم يكن اختيار العنوان لهذا المقال، هو بقصد المقارنة بين كارثة عبّارة الموصل التي وقعت في الحادي والعشرين من شهر آذار ٢٠١٩، وبين غرق سفينة تيتانيك الانكليزيَّة صباح ١٥ نيسان ١٩١٢، إنما مشهد غرق العبّارة في نهر دجلة يشبه في بعض تفاصيله غرق تيتانيك في المحيط الأطلسي.
والفارق إنَّ عبّارتنا غرقت بعد دقائق قليلة من بداية رحلتها القصيرة، فيما كان غرق تيتانيك، بعد أربعة أيام من إبحارها. ولهذا أقول، قد تكون المقارنة غير منطقيَّة بين حدثين تفصل بينهما مساحة زمنية تزيد على مئة عام، إلا في بعض الجوانب البسيطة، فالسفينة الانكليزيَّة غرقت بسبب جبل جليدي، فيما جاء غرق العبّارة نتيحة اصطدامها بجبلين وليس جبلاً واحداً!، هما جبلا الجشع والفساد اللذان أوجدا جبلاً ضخما تمثل بسوء الإدارة، ما تسبب في وقوع هذه الكارثة المرعبة التي لم يشهد لها العراق مثيلاً في تاريخه، إذ لم يسبق لنهر دجلة أو حتى الفرات أنْ ابتلعا عبّارة يركبها هذا العدد الهائل من البشر.
ولكن، ما جدوى الكلام والوصف أو حتى إظهار معالم الحزن، بعد أنْ وقعت الكارثة وحلّت المصيبة؟.. قطعاً، ما كان بالإمكان تحمل هول المصيبة، فمن ذا الذي يمكنه أنْ يحبس حزنه أو يمنع دموعه من الانهمار، وهو يرى تلك المشاهد المأساويَّة لأطفالٍ ونساءٍ وشبابٍ ابلتعهم نهر دجلة في طرفة عين، حتى أني استأذنت من الجواهري أنْ أتصرف في أحد أبياته، فقلتُ (يا دجلة الموت يا قبر المساكين).. لذلك، نقول، إنَّ علينا أنْ نناقش الأسباب ونعالج المشكلة، وإنْ لم نفعل ذلك فعلينا أنْ نتوقع وقوع كوارث أخرى ليس بالضرورة أن تكون غرق المزيد من العبّارات.
وما يزيد من حدَّة الآلام، هو ذلك الاستغلال السياسي البشع للمأساة ومحاولة استثمارها لتحقيق مكاسب سياسيَّة رخيصة على حساب الضحايا، فقد تحول مسار القضيَّة من المطالبة بكشف ملابسات الحادث ومعاقبة المقصرين، الى تماحك سياسي بين هذا الطرف وتلك الجهة، وتمكن المتصارعون من جر مواقع التواصل الاجتماعي الى ساحة صراعهم، حتى كدنا ننسى الكارثة، وهي طرية، إذ ما زال البحث جارياً عن المفقودين وثمة آمالٌ تدغدغ مشاعر أمٍ مكلومة أو أبٍ مفجوعٍ في العثور على طفل أو طفلة ما زالوا أحياءً.. ولولا تدخل الرئاسات الثلاث والزيارة السريعة للدكتور عادل عبدالمهدي الى موقع الحدث، تبعتها زيارتان لرئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب وعددٍ من الوزراء، وما نجم عن تلك الزيارات من إجراءات مهمة، لكانت مسارات الأحداث تمضي باتجاهات أخرى، قد تجرفنا الى مساحات بعيدة، كما جرف نهر دجلة ضحاياه الى مناطق بعيدة جداً عن منطقة وقوع الكارثة، ولعلَّ واحداً من الإجراءات المهمة التي أوقفت تداعي الأحداث، هو طلب رئيس الوزراء من مجلس النواب إقالة محافظ نينوى، ليس على خلفيَّة غرق العبارة، بل على قضايا فساد سابقة، ولكن تزامن الطلب مع الحادث، أسهم في لجم جماح التداعي الذي أرادت له بعض الأطراف أنْ يحدث.
إنَّ معالجة آثار المأساة بجميع أبعادها، وضمان عدم تكرارها أو ما يشابهها في المقبل من الأيام، هو أنْ يصار الى محاكمة الفاسدين وتفكيك مافيات الفساد التي تسببت بما حدث، وإقالة العاكوب ومن معه ستكون مفتاحاً مهماً في إجراء هذه المعالجة، إذ سيشعر كل الفاسدين أنهم ليسوا بمنجى من الحساب والعقاب. وهناك أمرٌ آخر شديد الأهمية، هو الصرامة في تطبيق الأنظمة والقوانين، فلو كانت مثل هذه الصرامة متوفرة، لما تجرأ القائمون على جزيرة الموصل السياحيَّة بإرسال الناس الى النهر في أيام غضبه، على الرغم من التحذيرات والتعليمات الصادرة بهذا الاتجاه.. ومهمٌ أيضاً أنْ يكون هناك تشديدٌ ومراقبة ومتابعة لتطبيق شروط السلامة والأمان في جميع مفاصل الحياة، ومنها الأماكن السياحيَّة، إذ لو كانت لدينا مثل هذه الإجراءات، لما سُمح لعبّارة الموصل المتهالكة أنْ تتحرك قيد أنملة وتتسبب بهذا العدد من الضحايا الذين لم يدركوا خطورة الموقف، على الرغم من عددهم الكبير الذي اكتظت به العبّارة التي لا تزيد طاقتها الاستيعابيَّة عن ٥٠ شخصاً.
وقبل هذا وذاك، على الحكومة ألا تنسى شهداء العبّارة ومصابيها، من عطفها ورعايتها لما تبقى من أسرهم.