المذبحة النيوزيلنديَّة وتطورُ الفكر المتطرف

آراء 2019/03/24
...

حازم مبيضين
تؤشر المذبحة النيوزيلنديَّة إلى انتقال الفكر المتطرف إلى مربع الإرهاب وسفك الدماء، وإلى مرحلة جديدة من ممارسة العنف، واستنساخ أساليب هجمات سابقة للتيار ذاته، ومن ثم “توسيعها”، والواضح هنا أنَّ تطور هذا الفكر المتطرف لا يخضع للرقابة التي تخضع لها عناصر الإرهاب المحسوب على الدين الإسلامي، فالقاتل الإرهابي في المذبحة الفنزويلية، اعترف بأنه يخططُ لارتكاب هذه المذبحة منذ عامين، وبديهي إنَّ الخطاب السياسي المتطرف لهذا الإرهابي لا يقل خطورة عن الخطاب التحريضي الذي يوظف الدين الإسلامي في الهجوم على الحضارة الغربيَّة واتباع الديانات الأخرى. وليس صحيحاً اعتباره مجرد ذئبٍ منفردٍ، كونه يعمل وفق نهج يميني متطرف، ما يثير الخشية من أنْ تكون هناك تنظيمات تحمل هذه الأفكار، انتقلت من العمل المعلن إلى العمل السري عبر شبكة أتباع منتشرة في العالم.
ولا بدَّ من ملاحظة توفر دوافع عنصريَّة عند إرهابي مسجد نيوزيلندا، وهولا يخفي تأثره بعدد من مجرمي الحرب وإعجابه بهم، وهو من حيث الفكر والممارسة داعشي بامتياز، فقد صور جريمته بدمٍ باردٍ كما يفعل الدواعش، وإذ نلاحظ أنَّ هناك صمتاً دولياً إزاء خطر اليمين المتطرف وصعود ظاهرة الإسلاموفوبيا، فإنَّ المنتظر ازدياد خطورة الأمر ليس لأنَّ بعض العنصريين سيعملون على تكرار مذبحة “كرايست تشيرتش”، ولكنْ لأنَّ مثل هذه الجرائم قد يكون لها ردودٌ أفعال على الجانب المقابل من عناصر متطرفة تنتمي للإسلام، سواء من داعش أو القاعدة أو غيرهما، وهنا يبدو الخطر جلياً ويتطلب تدخلات عقلانيَّة عاجلة في العالم أجمع، لنبذ خطاب الكراهيَّة والتحريض وتسمية الأمور بمسمياتها، إذ يجب إعلاء فكرة الأخوة الإنسانيَّة ونشر قيم التسامح والتعايش بشكل أكثر كثافة وحضوراً على المستويات التشريعيَّة والقانونيَّة، وذلك لعزل ومحاصرة التطرف والإرهاب على الصعيدين الإسلامي والغربي، لأنَّ الصمت يعني المجازفة بنشوب صراعٍ جديدٍ بين الأديان والحضارات.
نعرف أنَّ الحال في الغرب لم تكن هكذا قبل سنوات، لكنَّ استمرار تغذية اليمين المتطرف من قبل إعلاميين وسياسيين أوروبيين سمم المناخ الأوروبي العام، وعزز ظاهرة الإسلاموفوبيا، حتى أصبحت هاجساً مرعباً، وأسهمت في عزل المسلمين والتنكيل بهم، تغيرت أوروبا مع الإخفاقات السياسيَّة التي مرَّت بها في السنوات الأخيرة سواء في حل مشاكلها في مجال مكافحة الإرهاب، ومشكلة اللاجئين، وبوادر انفراط العقد الأوروبي، وخروج بريطانيا من الاتحاد، فظهرت الخطابات الشعبويَّة، مستغلة أحداثاً إرهابيَّة قام بها مسلمون في أوروبا، ينتمون إلى عائلات ذات خلفيات اجتماعيَّة مضطربة وفقيرة، لتركز على دغدغة عواطف الناس بالعبارات القوميَّة الرنانة، التي تؤكد على الإيمان بالعرق ونبذ المختلف حتى تضمن التأييد الشعبي، فسادت روح العنصريَّة، ورغم حالة الضعف والوهن التي تعيشها الأقليات المسلمة في الغرب، إلا أنهم فوجئوا بأنهم أصبحوا هدفاً لأحزابٍ يمينيَّة، تستمد قوتها وتفوقها من المتاجرة بهم.
وإذا كان العالم يقف الآن مذهولاً أمام بشاعة الجريمة التي وقعت بحق المسلمين في نيوزيلندا، لكنهم تناسوا عن عمد الأسباب التي أدت إلى ذلك، فمما لا شك فيه أنَّ جراءة ما حدث في نيوزيلندا لم يكن محض صدفة، بل جاء نتيجة تدشين عهدٍ جديدٍ من الكراهية، استمدت وقودها ليس فقط من مشاكل اللاجئين، بل من كراهية مقيتة ترجع إلى عهود الحروب الصليبيَّة، وهذا ما حاول القاتل التركيز عليه، بخط عبارات المواقع الحربيَّة على سلاحه بين مسلمين ومسيحيين، وللأسف يبدو أنَّ العالم مقبلٌ على عهدٍ عنصري بغيض، يعتمد تقسيم الناس من جديد حسب اللون والدين والعرق. غير أنَّ من المهم الإشارة إلى أنَّ ليس كل الغرب عنصرياً، فهناك كثيرون يعرفون مدى إسهامات الحضارة الإسلاميَّة في تفوق حضارة الغرب، واليوم لا أحد يستطيع التكهن متي وأين يمكن لدائرة الصراع بين الحضارتين أنْ ينتهي؟
حين نقرأ “البيان” الذي كتبه القاتل الأسترالي برنتون تارَنت، في نيوزيلندا، سنكتشف أنه ليس متطرّفاً معزولاً، فهو ينتمي إلى تيّار عريض، وليس إلى جماعة هامشيّة. كلّ فكرة في بيانه منتشرةٌ بين جماهير اليمين. لم يكن القاتل الإرهابي واهماً أو كاذباً حين زعم في بيانه أنّه ينتمي الى جماعة تُقاسمه معتقداته الأساسيَّة وفكرة القومية الإثنية البيضاء، وأنها تعدّ بالملايين، وبيانه يحيل إلى نظريّة شهيرة في صفوف اليمين الأوروبّي، وهي لم تظلّ محصورةً في حلقات هامشيَّة أو أكاديميَّة، بل تبنّاها مثقّفون شهيرون، وأصبحت لازمةً في كلامهم عن المهاجرين، في الإعلام وعلى المنتديات. وهم يؤمنون أنَّ المهاجرين وأبناءهم “تحديداً المسلمون” هم “محتلّون” بمجرّد وجودهم البيولوجي واختلافهم العرقي، وهم أعداء لأنّهم يتوالدون، والحرب ضدّهم هي حربٌ من أجل البقاء، تستدعي كلّ الوسائل وأعنفها. وحتّى هجوم تارَنت على النخب الرأسماليّة الغربيّة، كونها سهّلت تسرّب المهاجرين ليكونوا عمالة رخيصة في السوق، لا يبعد إلّا خطوةً عن عقيدة “اليمين الجديد” وأفكار تارَنت عن الإسلام والمسيحيَّة والقوميَّة الإثنيَّة، وتعريفه للحضارة الأوروبيَّة، هي آراء عليها توافقٌ واسعٌ في صفوف اليمين الغربي الصاعد، وليست متطرّفة ومعزولة، وإذا كانت العقيدة المسيحيّة تضمّ أكثريةٍ من غير البيض، فإنَّ هؤلاء مقسمون إلى مذاهب وكنائس مختلفة، فالخطاب العام لدى اليمين الجديد يعتمد المسيحيَّة كرمزٍ تاريخي وقومي للأوروبيين، ولكنْ من خارج إطار العقيدة الروحيَّة.
وبعد، قد تكون المجزرة النيوزيلندية بداية شيءٍ جديدٍ، أو تمثّل حدثاً يحرف التاريخ في اتّجاه معيّن. ولكنّ ما شاهدناه، لم يكن إلّا وجهاً واحداً من أوجه الكراهيّة. والمهم أنَّ أيّاً من المصلّين الذين هاجمهم الفاشيّ، سواء اللاجئ الأفغاني الذي انقضّ على السفّاح وأجبره على الفرار، أو الأب العراقي الذي حمى ابنيه من الطلقات بجسده، فيه كرامةٌ وحضارة وإنسانيّة أكثر بمراحل من برنتون تارَنت، ومن كلّ التاريخ الذي أنتجه.