عرائس جنوب السودان الصغيرات

بانوراما 2019/03/24
...

بيل ترو  
ترجمة: مي اسماعيل
أجبرت حرب الخمس سنوات سكان أحدث دول العالم تشكيلا على بيع بناتهم لقاء الغذاء. كانت فيرونكا في الثالثة من عمرها فقط حينما «حجز» والداها (اللذان كانت تعيش معهما في قرية منعزلة بجنوب السودان) زواجها؛ ليحصلوا على مهر هو بضعة رؤوس من الماشية؛ كي يطعموا اسرتهم الجائعة. ولذا لم يستطيعوا فعل شيء حينما عاد العريس (وهو في الاربعينيات) بعد نحو عقد من الزمن ليطالب بعروسه (التي صارت في الرابعة عشرة). تتذكر فيرونكا أنها اختبأت وراء امها وقاومت الأمر لتبقى في منزل اسرتها؛ لكن العريس هدد بالعودة ثانية ومعه سلاح ومناصرون.. وهكذا؛ وكما هو حال أعداد متزايدة من القاصرات في جنوب السودان؛ زوّجت فيرونيكا.. وسرعان ما أنجبت طفلا (بعد عملية ولادة متعسرة قادتها الى المستشفى).
 في السادسة عشرة تقول فيرونيكا (وطفلها يتمدد خاملا في جيب قماشي مربوط الى ظهرها): «لا أرتاح أبدا؛ فالطفل معاق وأنا جائعة وضعيفة. لم آكل بشكل صحيح يوما في حياتي كلها، ويصعب علي ارضاع طفلي.. انه مريض». 
يمارس الزواج القسري للفتيات الصغيرات منذ فترة طويلة في جنوب السودان؛ أحدث دول العالم تشكلا.. ورغم أن سن الزواج القانوني هو الثامنة عشرة؛ لكن معدلات زواج الاطفال فيه من الأعلى في العالم. ووفقا لإحصائيات الامم المتحدة (التي أجريت قبل اندلاع الحرب الاهلية سنة 2013)؛ فأن أكثر بقليل من نصف السكان عندهم الاناث تزوجن قبل سن الثامنة عشرة. 
عرائس في المزاد العلني
تصدرت القضية وسائل الاعلام في تشرين الثاني الماضي؛ حينما بيعت شابة من جنوب السودان تبلغ من العمر 17 عاماً في مزاد علني على الفيس بوك؛ مما أثار مخاوف من أن تستخدم أسر أخرى وسائل التواصل الاجتماعي للمطالبة بمهر أكبر لبناتهم. وأفادت التقارير أن صاحب أعلى عرض ( وهو رجل أعمال ثري) أعطى والد الفتاة أكثر من 500 بقرة ، وثلاث سيارات فاخرة و7500 جنيه استرليني كمهر. وفيما يعتبر مزاد بهذا المقياس أمر نادر للغاية؛ لكن جماعات حقوق الانسان تعتقد أن أعداد العرائس الصغار تضاعفت إذ تحملت النساء والاطفال وطأة الحرب الأهلية التي دامت خمس سنوات ودمرت البلاد، مما أثار واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم.
يحتاج نحو 7 ملايين انسان في جنوب السودان (أو نحو ثلثي السكان) معونات انسانية؛ فهناك نحو خمسة ملايين جائع؛ وهذا بالرغم من اتفاقية السلام الموقعة في أيلول الماضي بين الاطراف المتصارعة والرئيس المعترف به «سلفا كير مياردي». حذرت منظمة أوكسفام (اتحاد دولي لـلمنظمات الخيرية. المترجمة) هذا الاسبوع أن تزايد نسب الفقر والجوع أجبرت أُسرا مثل أسرة فيرونيكا بالوعد لتزويج بناتهم في مقابل الغذاء والتجهيزات.  ومضت المنظمة قائلة أنه في مناطق مثل «نيال» الشمالية أظهرت المعلومات الحديثة أن نحو 71 بالمئة من الفتيات زُوّجن تحت السن القانوني؛ مما يجعله المعدل الثاني الأعلى عالميا بعد النيجر. تقول «أليزا بوتشنان» مستشارة سياسة عمل أوكسفام في جنوب السودان: «نتلقى روايات سردية شخصية تفيد أن زواج الاطفال يتزايد في الواقع؛ والفقر هو أحد الأسباب الأساسية المرتبطة به. ولوجود نظام المهر (إذ يدفع الرجال أموالا لأسرة العروس لاتمام الزواج) لذا باتت أعداد متزايدة من الناس ترى فيه آلية تكيف لمواجهة الجوع». ولهذا السبب «حجزت» اسرة فيرونيكا زواجها منذ سن الثالثة. تمضي فيرونيكا قائلة باسلوب المستسلم للواقع: «اسرتي احتاجت للغذاء.. أحسست بخوف شديد حينما جاء زوجي، ولم ترغب والدتي بذهابي؛ لكن والدي أصر.. صار الأمر عنيفا؛ فالمواشي قد تم دفعها بالفعل».
عادات اجتماعية متجذرة
أسهم العنف وعدم الاستقرار في زيادة هذه الظاهرة؛ إذ دفع النزوح الداخلي لأكثر من مليوني شخص الآباء لتزويج بناتهم الصغيرات، لمساعدة الأسرة على الاندماج مع المجتمعات المضيفة. وفي الوقت نفسه قادت عسكرة السكان والانتشار الضخم للأسلحة الصغيرة في السنوات القليلة الماضية الاسر للمضي في تطبيق الزيجات القسرية المبكرة للبنات؛ حماية لهن من العنف الجنسي والاغتصاب والحمل قبل الزواج. في الماضي كانت هناك سلطات مجتمعية تحكم في تلك القضايا وتتدخل عند الضرورة؛ لكنها تهشمت أيضا وسط رماد الحروب. )
يقول المسؤولون المحليون في ولاية بوما (حيث تعيش فيرونيكا) أنهم يكافحون لمتابعة أسوأ تلك الحالات. في العام الماضي تبنت الحكومة خطة عمل وطنية ستراتيجية لإنهاء زواج الأطفال بحلول سنة 2030؛ لكن «ليديا أوغولوري» (الوزيرة المحلية للمساواة بين الجنسين في بيبور عاصمة بوما) ترى أن هذا طموحٌ بعيد، وأن من شبه المستحيل تغيير العادات الاجتماعية في وقت تواجه الدولة معتقدات ثقافية متأصلة بعمق وموارد محدودة. تُقدّر ليديا أن نسبة الاطفال المجبرين على الزيجات القسرية (في بعض القرى) قد تصل حتى 95 بالمئة؛ قائلة أنها مشكلة تخلق تداعيات اخرى في المجتمع؛ منها- التأثيرات الصحية على الامهات الصغيرات وحتى التقاتل بين القبائل على النساء. تعتبر معدلات وفيات الامهات في جنوب السودان من الأعلى عالميا؛ وزيادة زيجات الاطفال ستدفع تلك المعدلات للزياد.  تمضي ليديا قائلة: «تبيع الاسر بناتها نوعا ما الآن للحصول على الغذاء؛ والجميع يائسون. تنتج حالات تسمم واصابات (يستمر بعضها طيلة الحياة)لأن الأمهات الصغيرات لسن مؤهلات جسميا لعملية الولادة؛ وهناك نساء فضلن الانتحار لإحساسهن بالخجل من النتائج».
هذه الحالات (كما تقول ليديا) تضع البنات تحت خطر العنف البدني والجنسي والنفسي؛ وتتحمل غالبية العرائس الصغيرات عنفا متكررا من أزواجهن: «المشكلة الأعمق هنا هي العنف القائم على أساس الجنس، وهذا شيء تصعب مواجهته؛ لأنه يعتبر من المسلمات الثقافية؛ ويعد من يتحدث ضده مُدمِرا للثقافة». 
 
الاعتداء أمر روتيني!
تقول الامم المتحدة وهيئات مراقبة وقف اطلاق النار: إن الاغتصاب استخدم كسلاح في الحرب الأهلية بجنوب السودان، ان النساء والفتيات يجري اختطافهن بشكل روتيني ويجبرن على العبودية الجنسية. في الاسبوع الماضي جرى اطلاق عدد من الجنود- لأطفال في مدينة يامبيو الجنوبية؛ وكانت غالبية الفتيات من بينهم (الا ما ندر) يحملن اطفالا ولدنهم خلال فترات الاحتجاز. وفي بيبور تتحدث النساء كثيرا عن تصاعد العنف اليومي الذي يتعرضن له.
تزوجت غالبية النساء قبل سن الثامنة عشرة؛ وتعرضت النسبة العظمى منهن لعنف جسدي أو جنسي أثناء انجازهن لمهام حياتهن اليومية. تقول نياديت(37 سنة وأم لتسعة أطفال؛ التي كانت في السادسة عشرة حينما انجبت طفلها الأول): إن العنف لا يزال جزءا من حياة نساء جنوب السودان اليوميةإذ  «نتعرض لاعتدءات ونحن نجمع الحطب أو نقطع الاعشاب أو نحمل الماء. هوجمت في شباط 2016 وأنا اجمع الحطب وضُرِبت حتى كدت اموت.. انه أمر مألوف». 
حثت منظمة أوكسفام السلطات في دولة جنوب السودان لاتخاذ اجراءات عاجلة لايقاف زواج الاطفال؛ وأن تتصدى للمشكلة الواقعية الأوسع نطاقاً بأن المرأة ببساطة غير ممثلة تمثيلاً كافياً في المجتمع . ووعدت الحكومة في اتفاق للسلام أن تكرس 35 بالمئة من المناصب التنفيذية الحكومية للنساء.. لكنه امر لم يتحقق بعد. كما أن تناقص المانحين مشكلة أخرى لوكالات العون الدولية؛ فلم تلب المعونات سوى نحو ثلثي احتياجات الدولة في العام الماضي، وهم بحاجة للمزيد في العام الحالي. وبسبب انخفاض الميزانية اضطرت أوكسفام لإنهاء بعض البرامج المخصصة لمحاربة العنف على أساس الجنس والزواج المبكر. 
وعلى الطريق الترابي المؤدي الى العيادة الصحية تمشي فيرونيكا حاملة طفلها على ظهرها؛ وكأنها فتاة تحمل اختها الصغرى، بدلا من أم شابة تحمل أثقال العالم على كتفيها.. تقول: «لا أحتاج للكثير ولا أريد أن أصير عبئا على أحد؛ أحتاج فقط أن يساعدني المجتمع الدولي لأجد عملا أقتات منه لأعيش..». 
الاندبندنت البريطانية