استقالة

الصفحة الاخيرة 2022/06/08
...

حسن العاني
في وقت مبكر من مراهقتي الفكرية استهوتني القراءة جداً، وبسبب هذا الهوس كنت أصرف كل فلس معي على شراء الكتب، وكان هذا الهوس مؤذياً لفتى بعمري، فبينما انشغل أقراني بملاحقة البنات وحققوا نجاحات باهرة، إذ كان كل واحد منهم بحكم ذكائه وفطنته يحفظ مئات المفردات والتعابير المسروقة من الأفلام الهندية، وهي تتغزل بالعيون والخدود والشفايف - وكان ذلك ينطلي عليهن - كنتُ أنا بحكم سذاجتي، وربما غبائي، كلما تعرفت على واحدة من الصبايا، لا أتغزل بها ولا أصف مفاتنها وسحرها، وإنما أتحدث عن همنجواي وشولوخوف ودكنز والزمكانية والبروليثاريا الرثة، لذلك لم تستمر علاقتي العاطفية مع أية واحدة منهن أكثر من نصف أسبوع !
هذه هي الحقيقة المرة، سيرتي الذاتية في مرحلتي المراهقة والشباب كانت مثقلة بوجع الرأس ومتاعب الثقافة، وزاد من هذه المتاعب عشق غريب لازمني في تلك السنوات متمثلاً بحب (الكتب السميكة)، فكلما كان الواحد منها يتألف من (900) صفحة في الحد الأدنى اقتنيته بغض النظر عن ثمنه، وطالما حرمت نفسي من المتع الأخرى، والغريب أن ولعي بنوع هذه الكتب الضخمة لم يكن بالضرورة من اهتمامي، أذكر أنني اشتريت يوماً كتاب (الوجود والعدم) لسارتر - مع كرهي للفلسفة - وقرأتُ منه الثلاثين صفحة الأولى فلم أفهم منها جملة واحدة، وأعدت قراءتها ثلاث مرات والنتيجة واحدة، وهكذا فعلت مع كتب أخرى، ولكنني خرجت بفائدة عظيمة، إذ اشبعت رغباتي الثقافية نفسياً، فمتى جلست مع أصدقائي (المثقفين) وجرى الكلام عن الوجود والعدم مثلاً، أو رأس مال ماركس أو احياء علوم الدين للغزالي أو دلائل إعجاز الجرجاني.. إلخ، أندمج في الحوار على أساس أنني (قرأت هذه الكتب قراءة مستفيضة!) واكتشفتُ في سنوات لاحقة من تقدم العمر أن 99% من أصدقائي المثقفين هم نسخة مني، أو أنا نسخة منهم!
يبدو أن عشق الكتب السميكة لم يغادر هوسي المرضي، ولهذا (تحول) في سنوات الشيخوخة إلى عشق (القواميس) لأنها كبيرة الحجم كذلك، ولهذا يتصدر مكتبتي قاموس المحيط وكذلك قواميس لسان العرب ومختار الصحاح والقاموس العراقي والمنجد في اللغة والإعلام.. أباهي بها وأستعين في الوقت نفسه لمعرفة هذا المعنى أو ذاك.
قبل بضعة أشهر كنت أبحث عن معنى مفردة (استقالة) وأصلها وجذرها واشتقاقها، وهل هي عربية أم أجنبية، وقد استغربت جداً لأنني لم أعثر عليها أبداً برغم محاولاتي الكثيرة، ولكن سرعان ما زال استغرابي حين اكتشفت بأنني كنت أبحث عنها في القاموس العراقي!.