البحث عن قراصنة السمك

بانوراما 2019/03/25
...

ريتشارد غراي 
ترجمة: مي اسماعيل 
السفينة «أندريه دولغوف- Andrey Dolgov» التي يرمز لها بالحرفين (D.A) وطاقمها كانت معروفة بنهب موارد البحار على امتداد عشر سنوات، وتخلصت من محاولات متكررة للامساك بها؛ لكن مطاردة دراماتيكية في أعالي البحار أوقعت بها في آخر المطاف مطلع العام الماضي. فقد تتبع زورق الدورية البحري الأنيق (المزود بالمدافع) السفينة (D.A) ذات البدن الصدئ وهي تبحر على مياه ملوثة بالزيت؛ فلم يُتح لها فرصة الفرار. وتزامنا مع مراقبة جوية (بطائرات المراقبة والمسيرة) اقترب زورق البحرية الأندونيسية من السفينة منهيا سنوات المطاردة؛ فاستسلم طاقمها للزورق. 
إنها واحدة من أكثر السفن المطلوبة في البحار؛ وهي جزء من شبكة اجرامية دولية تنتعش ما بين الخطوط «الضبابية» للقانون البحري وفساد المسؤولين، وتستنفد أبرز الموارد المستدامة للمحيطات: الاسماك. 
تباينت الاسماء التي أطلقها بحارتها عليها؛ فهي «أندريه دولغوف»، أو «STS-50»، وأحيانا «نسيم البحر1- Sea Breez 1». قد يصعب تصديق أن تلك السفينة الصدئة المتهالكة كانت من أكثر السفن المطلوبة للقانون عبر مختلف البحار؛ لكنها تمكنت من الافلات من قبضة السلطات مرات عديدة، وتخلصت من مطارديها عبر المحيطات. وكانت واقعة القبض عليها وطاقمها حصيلة لتعاون دولي استمر شهورا طويلة بين الشرطة والسلطات البحرية، وأعمال تحرٍ دؤوبة وتتبع بالأقمار الصناعية تشبه روايات الجاسوسية. 
يقول «أندرياس أديتيا سالم»؛ عضو فرقة العمل الرئاسية من إندونيسيا التي قادت عملية الإيقاع بالسفينة أندريه دولجوف: «صُدِمَ قبطان السفينة وطاقمها حين أوقعنا بهم؛ وحاولوا القول إنهم لم يصطادوا الاسماك لأن ثلاجاتهم كانت عاطلة. وحينما صعد ضباط البحرية الأندونيسية الى السفينة بعد الايقاع بها عند مصب مضيق ملقا (ممر رئيسي للملاحة البحرية بين شبه جزيرة الملايو وجزيرة سومطرة- المترجمة)؛ عثروا على كومة ضخمة من 600 شبكة صيد دقيقة، يمكن أن تمتد لما يقارب 29 كم طولا إذا تم نشرها. تسمح تلك الشباك باصطياد ما قيمته نحو ستة ملايين دولار من الاسماك في الرحلة الواحدة؛ لتأخذه السفينة الى الشواطئ حيث يُخلط مع الصيد القانوني لكي يباع، أو ينقل الى السوق السوداء.. وفي خاتمة المطاف يصل السمك الى الاسواق أو المطاعم وموائد الطعام. 
 
مغامرة إجرامية مغرية
تقول «كاتي كلو»؛ عالمة الأحياء البحرية من مركز علوم المحيطات- جامعة ساوثهامبتون: «عشرون بالمئة من حصيلة الصيد العالمي غير قانونية أو غير معلن عنها أو غير منظمة». وتأثيرات هذا الأمر واسعة، فهي تؤذي الأرصدة السمكية ذاتها؛ اضافة لصناعة الصيد وتراجع ثقة المستهلك.. تمضي «كلو» قائلة: «اذا استمر الصيد غير المشروع فستنهار مخزونات الاسماك وتؤثر بالتالي في معيشة الصيادين عبر جميع أنحاء العالم». وتقدر قيمة الاسماك التي نهبتها السفينة (D.A) خلال السنوات العشر (أو نحو ذلك) التي عملت بها بصورة غير قانونية بنحو خمسين مليون دولار؛ ومع هذا الكم من الأرباح من السهل أن نرى لماذا يعتبر الصيد غير المشروع مغامرة مغرية للمنظمات الإجرامية. يقول «أليستير ماكدونيل»؛ عضو فريق مكافحة الجريمة السمكية بالانتربول، والذي ساعد على تنظيم عملية تعقب السفينة والامساك بها: «تعمل مثل تلك السفن وسط المياه الدولية خارج مناطق سلطات الدول؛ وهذا أمر يستغله المجرمون». لكن تأثير هذا الاستغلال أعمق من فرصة بعض المجرمين لكسب الأموال؛ فهو يتضمن التعامل الفاسد مع موظفين حكوميين وغسيل أموال وعبودية. فالعديد من أفراد طواقم تلك السفن يعملون قسرا، بعدما جرى احتجازهم من سفن في عرض البحار، على بُعد آلاف الاميال عن موطنهم. وهناك أيضا التأثير البيئي، إذ يقول «ماثيو كاميليري» رئيس قسم مصائد الأسماك بمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة: «الصيد غير القانوني أحد أكبر التهديدات التي تواجه مصائد الأسماك المستدامة؛ فمعدات الصيد المستخدمة مؤذية جدا للشبكات البيئية الهشة مثل الشعاب المرجانية. ولهذا يبذل المجتمع الدولي جهودا كبيرة لمحاربة الصيد غير القانوني».
 
تاريخ متقلب
لم تبدأ السفينة «أندريه دولغوف» حياتها مع الصيد غير القانوني؛ فقد كانت مجرد قارب صيد لسمك التونة الطويل، وبني سنة 1985 بطول 54 مترا داخل أحواض بناء السفن ضمن ميناء «شميزو-Shimizu» الخلاب في اليابان. ثم عملت قانونيا تحت العلم الياباني باسم «شينسي مارو2- Shinsei Maru No2» بحمولة 570 طنا، وابحرت بين المحيطين الهادي والهندي، لصالح شركة «ماروها نيشيرو» للمأكولات البحرية اليابانية. ويبدو أن السفينة تنقلت بعد العام 1995 بين عدة مالكين؛ فانتهى بها المطاف للابحار تحت العلم الفلبيني باسم «Sun Tai 2» حتى سنة 2008. وانضمت بعدها إلى اسطول الصيد الكوري الجنوبي؛ حيث تغير مالكوها أربع مرات على الأقل. وما بين سنوات 2008- 2015 أُعيد تجهيز السفينة لصيد الأسماك في جنوب المحيط وخزنها لفترات طويلة. 
تعتبر أسماك «المسننة- Toothfish» من الانواع المرغوبة جدا في مطاعم العالم؛ ويشار اليها أحيانا بتسمية: الذهب الأبيض، بالنظر لقيمتها العالية.. لكن صيدها يتطلب موافقات معينة. ومع أن السفينة كانت موضع شك بقيامها بصيد غير قانوني لعشر سنوات على الأقل؛ لكنها أصبحت موضع شك على المسرح الدولي منذ تشرين الأول سنة 2016؛ حينما اكتشفتها السلطات الصينية وهي تحاول تفريغ حمولتها من أسماك المسننة التي اصطادتها لا قانونيا. وحينذاك كان القارب قد اتخذ اسم «أندريه دولغوف» ورفع العلم الكمبودي؛ تحت إدارة شركة مسجلة في دولة «بيليز» (أميركا الوسطى). وقبل سنة من ذلك التاريخ جرى تصويرها وهي تبحر أمام شواطئ بونتا أرينا (على الطرف الجنوبي من منطقة باتاغونيا ضمن دولة تشيلي)؛ مما يشير إلى أنها كانت تقوم بالصيد في المحيط الجنوبي. لاذت السفينة بالفرار عبر المحيط الهندي قبل أن تتمكن السلطات الصينية من اتخاذ اجراءات بشأنها؛ ولكن هذه المرة جرى ادراجها ضمن قائمة «الصيد غير المشروع وغير المبلغ عنه وغير المنظم». ولذا منعت السفينة وطاقمها من محاولة دخول موانئ جزيرة موريشيوس (المحيط الهندي). 
بحلول كانون الثاني 2017 حملت السفينة اسم «نسيم البحر1» تحت علم توغو (غرب أفريقيا)؛ لكن تلك الدولة شطبتها لاحقا من سجلاتها. وظلت السفينة تتنقل من ميناء الى آخر، وغيرت اسمها الى «عايدة- AYDA». كان الطاقم يقدم وثائق تسجيل مزورة الى سلطات الموانئ لاخفاء هوية السفينة، وادعوا انتماءهم الى ثماني دول مختلفة على الأقل؛ منها: توغو، ونيجيريا وبوليفيا. 
 
تحت حماية العلم
تغير سفن الصيد غير المشروع الأعلام التي ترفعها باستمرار؛ لتدعي انتماءها الى دول لا تتعامل بقوانين البحار. ويمضي «ماكدونيل» قائلا: «انه تكتيك مألوف؛ فهم يرتكبون تزوير الهوية بشكل أساسي بتزوير سجلهم بشكل متكرر. فقط دول العلم لها سلطة على السفن عندما تكون على بعد أكثر من 200 ميل من الساحل؛ لكن هذه السفن تدعي رفع أعلام دول ليس لديها تشريعات خاصة بمصائد الأسماك لتغطيتها، ولا تخضع لأي من معاهدات مصائد الأسماك الدولية. تعتبر سلطات دول السواحل تلك السفن عالية الخطورة، ومن دون حماية علم دولة ما؛ لا تنتمي لأي دولة». أخيرا لحقت السلطات بالسفينة في شباط سنة 2018 قرب أحد موانئ مدغشقر؛ حينما قدم الربان وثائق تسجيل مزورة للمنظمة البحرية الدولية (وهو ما يجب أن تمتلكه كل سفينة تتجاوز حجما معينا). فأخطرت سلطات مدغشقر مجلس حفظ الموارد البحرية الحية للقطب الجنوبي (الذي ينظم الصيد حول القارة القطبية الجنوبية). ثم هربت السفينة وطاقمها مجددا؛ لكنهم تركوا خلفهم أثرا هذه المرة.. فقد كانت السفينة قد جُهزت بنظام استجابة تلقائي «an automatic transponder system» لكي يسهم بتجنيب اصطدام السفن ببعضها. ويبث نظام التعريف الأوتوماتيكي هذا (المعروف اختصارا بحروف AIS) اشارة باحداثيات موقعية يمكن التقاطها عبر أجهزة الراديو والأقمار الصناعية. ثم ظهرت مشكلة؛ فحين أدخل المسؤولون أرقام تعريف السفينة الى أنظمتهم، ظهرت شبكة معقدة من الآثار امتدت الى ارجاء العالم.. فقد ظهر للسفينة وجود قرب سواحل كل من جزر فوكلاند والنرويج وفيجي في وقت واحد.. وكل نقطة تبعد عن بعضها آلاف الأميال! يشرح «تشارلز كيلغور» (الذي كان حينها محللا أقدم لمصائد الأسماك التابعة لمنظمة «Ocean Mind» البريطانية غير الربحية، التي تحلل بيانات سفن الصيد المبحرة): «كانوا يحجبون هويتهم بواسطة نسخ اشارات بث AIS)؛ وهي تقنية جعلت السفينة تبدو موجودة على نحو مئة موقع في آن معا. 
 
مطاردة حول العالم
كشف تفتيش للسفينة في مياه موبوتو (قبالة موزمبيق) عدة للصيد ووثائق تسجيل مزيفة؛ فاحتجزوا السفينة ووثائقها وجوازات البحارة؛ ولكن السفينة أفلتت ثانية قبل استكمال التحقيق. هذه المرة كان لكيلغور وطاقمه توكيد دقيق لموقع السفينة وموعد تحركها؛ فاستعان بالأقمار الصناعية لالتقاط صور رادارية لها والتثبت من اشارة AIS الصحيحة. يقول كيلغور: «يمكننا تتبع أي سفينة معدنية كبيرة عبر صور الرادار ولوغارتماتية الاحداثيات؛ ثم نطابقها مع بيانات اشارة AIS». كذلك جرى استخدام صور الاقمار الصناعية تحت الحمراء؛ التي تلتقط أضواء السفن ليلا. وبتجميع كل تلك المعلومات أمكن تتبع اشارات السفينة بشكل دقيق. ثم تولت سفينة تملكها منظمة «راعي البحار» للحفاظ البحري (تحت إمرة البحرية التنزانية) المطاردة؛ فتبعت السفينة لعدة أيام حتى جزر سيشيل، مع ارسال الصور والاشارات. يقول «بيتر هامرستادت» (مدير عمليات «راعي البحار»): «غادرت السفينة مياه موزمبيق ولجأت الى أعالي البحار؛ والمدهش أن سلطات البحرية التنزانية قررت مغادرة مياهها الاقليمية لمطاردتها؛ حتى وإن لم تكن السفينة ارتكبت جرما ضمن مجال تلك المياه». ولكن غياب التخويل لايقاف السفينة (خارج مياه تنزانيا) أدى الى ايقاف المطاردة. 
قدم كيلغور وطاقمه الى الانتربول (وهي البوليس الدولي- المترجمة) تحديثا لموقع السفينة كل أربع ساعات؛ مستخدمين حساب السرعة والاتجاه لتخمين وجهتها القادمة. تتردد معظم الدول عن مطاردة سفينة مارقة مثل هذه أو تمسك بها؛ فالمتاعب القضائية تجعل الأمر محفوفا بالمصاعب. وهناك أيضا تكلفة مثل تلك العملية؛ فهي غالبا سفن سيئة الصيانة والادامة تمثل خطرا ملوثا، وتحتاج احيانا للاصلاح. كما يجب التخلص من حمولتها بأمان وترحيل أفراد طاقمها الى أوطانهم. قد توجد آفات على السفينة، ولا بد أيضا من اقامة حراسة عليها على مدار الساعة. هذه المتاعب تتخوف منها حتى الدول المتقدمة؛ فلا عجب أن تبتعد عنها الدول النامية. 
لحسن الحظ اتجهت السفينة صوب واحدة من الدول القليلة التي لا تتردد عن التعامل بحزم مع سفن الصيد غير الشرعي.. فكانت أندونيسيا قد أوقفت 488 سفينة غير شرعية التعامل منذ سنة 2014 ودمرتها؛ شكل بعضها اسطولا للصيد غير الشرعي عبر بحار الجنوب؛ بعيدا عن مياه أندونيسيا. تعاونت سلطاتها القانونية مع دول اخرى لمطاردة السفن المارقة؛ ويقول ماكدونيل، واصفا آخر مراحل المطاردة بأنها أوقات عصيبة: «أمضينا آخر 72 ساعة بلا نوم..». حوصرت السفينة جنوب شرق جزر «ويه-Weh» شمال غرب سومطرة، وأُمِر ربانها بالتوقف والاستعداد للتفتيش. 
 
نهاية المطاف
وجد ضباط البحرية الاندونيسية أن ربان السفينة وخمسة من ضباطها كانوا روسا وأوكرانيين، أما باقي الطاقم فمن أندونيسيا؛ وأدعوا لاحقا أنهم لم يعرفوا أن عمليات السفينة غير مشروعة. اعتبرتهم السلطات ضحايا عمليات استعباد واتجار بالبشر؛ بعدما جرى خداعهم للعمل على ظهر السفينة. حُكم على القبطان الروسي بالسجن لأربعة أشهر ودفع غرامة فاقت عشرة آلاف دولار بتهمة الصيد غير المشروع، أما باقي الضباط  فجرى ترحيلهم الى أوطانهم. لم يتوقف التحقيق عند ذلك الحد؛ فقد دقق خبراء الفحص الجنائي الرقمي المعلومات الكثيرة في غرفة قيادة السفينة وحواسيبها وأدواتها الملاحية وهاتف القبطان؛ وهذا ما ساعد سلطات الملاحة الدولية على كشف الشبكة الاجرامية الواسعة التي عملت السفينة ضمنها. 
فبينما جرى تسجيل السفينة على انها مملوكة لشركة برازيلية؛ كان لمالكها الروسي (وفق الشكوك) مكتب في كوريا الجنوبية، وقد أجرى عمليات تحويل اموال عديدة الى نيويورك. ويعتقد أن لها ارتباطا بالجريمة المنظمة في روسيا. تساعد الانتربول الان عددا من الوكالات القانونية لدول عديدة من أجل تتبع المجرمين الذين كانوا يديرون عمليات السفينة وزوروا وثائقها وباعوا صيدها الى السوق السوداء.
يقول ماكدونيل: «لا يتوقف العمل بالامساك بهذه السفينة؛ فهناك العديد من الأسئلة التي تنتظر الاجابة؛ فالمنظمات الاجرامية شبكات محبوكة، تقودها عوائل كاملة أو «أعمال داكنة» متنكرة بصورة شركات شرعية غالبا. نحن نبحث عن كيفية تقديم المجرمين لأعمالهم وكيف يحولون السمك الى أموال. وحتى وقت قريب تمكنوا من العمل وأفلتوا من العقاب.. لكن هذا تغير الآن». أما السفينة أندريه دولغوف فقد تحولت الى وسيلة تعقب وايقاع بالمجرمين؛ وهذا ما قررته السلطات الاندونيسية بدلا من نسفها، فضمتها الى أسطول اندونيسيا لمطاردة الصيد غير المشروع؛ لتكون رسالة إلى قراصنة الأسماك: أن لا أماكن للاختباء.
 
موقع بي بي سي البريطاني