محلة نجيب باشا و شارع طه ينعيان ماضيهما الجميل

فلكلور 2022/06/14
...

  يوسف المحمداوي
  تصوير : نهاد العزاوي
ابن الطباخ شاكر الذي كان يسكن الشارع، استطاع والده أن ينقذه من أتون الحروب الهداميَّة ويهربه خارج العراق ليكمل دراسته في إحدى الدول الأوربية، وبالرغم من وجود أسرته معه في المنفى بعد أن لحقت به، بقي الحنين لمهد طفولته وملعب صباه في محلة نجيب باشا التابعة لمنطقة الأعظمية، بعد أن حفرت الغربة بأزميلها تجاعيد ذلك الوجه الجميل، خشي أن يغيبّه الموت من غير أن يلتقي  بأثر لصحبة الأمس في شارع طه، هو يدري من مات ومن رحل، يعرف بأن صديقه الأثير نصير الجادرجي قد بلغ بالعمر عتيا، بعد أن فارق أباه وشقيقه رفعت، لكن الشارع بذاكرة القلب لا يموت، «هو ما تبقى لي كان يرددها مع الروح لا بد أن نلتقي»، ومع خبر ازالة دولة اللا نظام  حزم حقائبه لتسوقه أقدام الشوق لأحضان معشوقته وشاغلته الأولى بغداد، باحثا فيها عن بيوت الأمس وذكريات لأصحاب الترف.
حادثة البستان
كان القلب يسبق القدم في السير ليعانق المكان والزمان الأجمل، يدخل حضرة الشارع على خطى أصوات بيوت تتزاحم على مناداته، عيونه تردد برعشة الحب “من ذا يعيرك عينه تبكي بها...أرأيت عينا للبكاء تعار”، تتزاحم الأين؟ على عتبات البيوت، باب صديقه الأثير نصير الجادرجي، وكذلك باب ابن وزير الداخلية، يتذكر جيدا حادثة البستان الذي أصبح اليوم بناية اعدادية الحريري للبنات، حين اجتمع الصبيان الثلاثة هو ونصير وابن وزير الداخلية ليدخلوا خلسة الى البستان ويقطفوا من اشجاره ما لذَّ لهم وطاب، ولم تدم سعادتهم طويلا بعد أن قبض عليهم حارس البستان وأرسلهم الى مركز الشرطة بتهمة السرقة، لم يكن يعرف أنه الحلقة الضعيفة بين الثلاثة إلى أن سالهم ضابط المركز عن اسمائهم، ليتبين للضابط أن الأول ابن كامل بك الجادرجي والثاني ابن معالي وزير الداخلية والثالث ابن الطباخ، لينهال الضابط  عليه بالضرب تحت ذريعة هو من علم صديقيه على السرقة، يتذكر جيدا فرحة أهل أحمد سوسه، الذي كان يسكن الشارع بعد أن رزقهم الرحمن بعد طول انتظار بمولودة أسموها عالية، لكنه لا يدري بحجم حزن الأسرة عليها بعد استشهادها في مقر بناية الأمم المتحدة، الذي تعمل فيه كمترجمة بعد أن فجره صهريج إرهابي بعد التغيير.
يستغرب شاكر وهو يرى الشارع الذي سكنه 12 وزيرا و6 رؤساء وزراء في العهد الملكي يشكو الاهمال وتراكم النفايات فيه، وكأنه يخاطب أمانة بغداد بصوت سليمة مراد الذي سكنته “ كلبك صخر جلمود ما حن عليه”، لعله يحظى بالتفاتة رحمة من قبل الأمانة على هذا المعلم المتخم بذكريات ترف سياسي لعقود من تاريخ الوطن.
رزم شاكر أوراق ذكرياته وأودعها النسيان وهو يردد بمرارة هذا ليس شارع طه. نهرب من واقعنا باتجاه الماضي تقودنا خطى الخيبة التي نعيشها صوب ترفه الذي نحنّ اليه مرغمين بعد أن وجدنا أنفسنا قانطين بميادين الخراب.. نعم.. الخراب الذي نعيشه لا يعدله أي خراب آخر.. خراب نفوس ومدن وشوارع كانت بالأمس ولادة للسحر والجمال والمعرفة.
شوارع بغداد الماضي، كل له بورتريت خاص يتميز به عن أمثاله من الشوارع. 
وجهتنا اليوم شارع متخم بالرموز والشخصيات التي لها بصماتها في تاريخ العراق وأقل ما يوصف به بأنه شارع الساسة، شارع قد يجهل تاريخه الكثير من المواطنين، لكن التاريخ دائما وأبدا يلتفت إليه كدلالة من دلالاته أو رواية من رواياته. إنه شارع طه، وهو الاسم الشائع بين الأوساط، ولا أظن أن هناك من يسميه شارع الخنساء كما هو مثبت رسميا.
 
محلة نجيب باشا
محلة نجيب باشا محلة جنوب الأعظمية محدودة إداريا بين شاطئ دجلة ومحلة الوزيرية، وبين ساحة عنتر والصرافية وسميت باسم محمد نجيب باشا، الذي تملك ارضها اثناء ولايته على  بغداد سنة 1842 - 1849م وإيه نسبت المحلة في ما بعد، ولد محمد نجيب باشا سنة 1820 من أسرة كلهم باشوات متنفذين في الحكم،  درس محمد نجيب باشا العلوم العسكرية في الاستانة في تركيا، لأن أولاد الأمراء لهم أولوية في التعلم لخدمة السلطنة العثمانية، تخرج من المدرسة وخدم في الجيش العثماني كآمر قومندارية في وزارة المدفعية في القاطع الجنوبي من السلطنة (بغداد –  بصرة ) واشترك في العديد من الحروب العسكرية في الوطن العربي.
وتشير الروايات إلى أنه  كان من المقربين إلى السلطان عبد الحميد الذي ولاه البصرة وبغداد للفترة (1842 – 1849)، ومن أنشأ  سدة على نهر الفرات تعرف اليوم بسدة الهندية، ومن صفاته كان عطوفا يساعد الفقراء من ماله الخاص، حيث تبرع بالكثير من أملاكه الخاصة التي كسبها أثناء ولايته العراق، منها بناء جامع في منطقة الميدان وبناء جامع ومكتبة في سوق السراي،  وتبرع بساحة الكشافة في بغداد وبنى العديد من المجمعات السكنية للمواطنين اعتبرها وقفا دينيا للدولة، لا تزال مسجلة باسمه في سجلات الأوقاف، وأرض مدرسة محمد نجيب باشا في محلة نجيب باشا وأملاك في البصرة وديالى وغيرها من الاملاك التي قد حرم عائلته منها على حسب أقوال أحفاد أحفاده المتواجدين حاليا في البصرة، حيث ما دفن في مثواه الأخير آنذاك. وقد سمي جزء من هذه المحلة منذ نهاية ثلاثينيات  القرن العشرين بشارع طه، نسبة الى الفريق طه الهاشمي، الذي نزل هذا الشارع وسكن فيها عهدذاك، ومن أبرز معالم المحلة الواقعة على شاطئ دجلة نزولاً الى الوزيرية، ثلاثه قصور اتخذ اكبرها بلاطا للملك فيصل الاول وألحق به الثاني من الجهة الجنوبية في عملية توسيع البلاط ، اما الثالث ويقع شمالا فقد بقي غير ملحق بالبلاط وقد سميت الثلاثة (قصر ابن شعشوع).  
 
شارع طه
نصير الجادرجي ابن السياسي كامل الجادرجي رئيس الحزب الديمقراطي ووزير الاقتصاد والمواصلات في العهد الملكي و صاحب جريدة الاهالي هو احد سكنة شارع طه، التقيته بحوار اعلامي في داره، التي تبلغ مساحته 1000متر مربع التي تقع قبالة دار والده وشقيقه الراحل المعمار رفعت الجادرجي، والتي تبلغ مساحتها 3000م2، ليحدثني بألم لم تستطع إخفاءه تجاعيد السنين الطويلة، التي عاشها بأفراحها واتراحها قائلا: في مخيلتي لوحات بديعة لشارع كانت له الريادة في القرارات، التي تتحكم بمقادير الدولة العراقية، لكن الواقع الذي يعيشه الشارع ذليل ومحبط يشكو الى الله غياب هيبته وسلطته، شارع ترابي، لا وجود لمجالس الساسة والمثقفين التي كان يعج بها من خلال الصالونات الثقافية والحفلات الموسيقية والمعارض الفنية، كل شيء اندثر في هذا الشارع، لا حدائق البيوت التي كانت تملؤها الورود والثمار، والدور التي كانت مساحاتها لا تقل عن ألف متر تجدها تحولت بفضل الانشطار الى دور لا تتجاوز الخمسين مترا، وأغلب سكنة الشارع هاجروا خارج البلد، ومع حديث الجادرجي عن شارعه بتلك الصورة الزاهية، لكني  لم أشعر بأني أدخل شارعا في محلة من محلات بغداد الرقي والحضارة، بل أجد قدميّ تقودني إلى إحدى الطرق الترابية في مدينة مهجورة وخربة، نعم هذا ما رأته عيناي في شارع طه الذي اطلق عليه الاسم نسبة إلى رئيس الوزراء في العهد الملكي طه الهاشمي.
طه الهاشمي الذي من أوائل سكنة الشارع ولد عام 1888 وتوفي في لندن عام 1961، والهاشمي تخرج من المدرسة العسكرية في استنبول عام 1906 ثم مدرسة الاركان عام 1909 برتبة رئيس اركان والتحق بالجيش العثماني المرابط في سوريا، لكنه عاد الى بغداد عام 1920 وعين من قبل الملك فيصل آمراً لمنطقة الموصل، ثم رئيسا لأركان الجيش عام 1932، وبقي يتدرج في المناصب حتى انقلاب بكر صدقي الذي منعه من العودة من لندن إلى العراق، ولكنه عاد بعد اغتياله وانتخب نائبا عن بغداد، ثم وزيرا للدفاع عام 1938 وتولى منصب رئيس الوزراء لمدة شهرين عام 1941، بعدها اختير رئيسا للوزراء من قبل الوصي عبد الاله بعد إقصاء حكومة الكيلاني، انتهت ولايته مع هروب عبد الاله خوفا من الاغتيال، شارك في تأسيس الجبهة الشعبية المتحدة ثم رئيسا لها عام 1951، ثم رئيس مجلس الإعمار عام 1953 حتى عام 1958 توفي في لندن عام 1961 .
 
ذكريات تاريخيَّة
 استقبلنا الجادرجي نصير في داره الواقعة في الشارع بحفاوة السياسي المتواضع وكرم الفلاح لضيوفه اتخمنا ونحن نجلس بقربه بغذاء وذكريات تأريخية، لا يمكن نسيانها او تجاهلها او حتى الاكتفاء منها تماما، انه ابن رجل أقل ما يقال عنه من جيل اوائل المنادين بالديمقراطية والحريات .
يقول الجادرجي إن شارع طه الذي ترونه خربا الآن كان ولعقود من الزمن موطنا لستة رؤساء وزراء و12 وزيرا ومنجما ثقافيا وفكريا وفنيا، فمن هذا الشارع خرج طه الهاشمي وسمي باسمه لكونه اول من سكن فيه، وكذلك رؤساء وزراء العراق في العهد الملكي فاضل الجمالي ومصطفى العمري وحسيب الربيعي ونور الدين محمود وناجي شوكت، ومن الوزراء غازي الداغستاني الذي تبوأ ايضا منصب نائب رئيس الجيش وقائد الفرقة الثانية وهو شخصية مهابة ومحترمة، اعتقل في ثورة 14 تموز 1958، ومن الشارع ايضا جمال بابان نائب رئيس الوزراء في وثبة 1952، ويستذكر الجادرجي مشاركته في تلك الانتفاضة، حيث تمَّ اعتقاله بعد أن مزق بدلة احد رجال الشرطة، وأفرج عنه لعدم اعتراف الشرطي بمسؤوليته عن ذلك، ومن الشارع ايضا عبد اللطيف نوري وزير الدفاع في حكومة بكر صدقي ووزير الخارجية ناجي الاصيل ايضا في تلك الفترة كما يروي الجادرجي.
 
عاصمة ثقافيَّة
محلة نجيب باشا وشارع طه أقل ما يقال عنهما هما عاصمة العراق السياسية والثقافية والفنية، لما عاش بهما من ترف سياسي وثقافي في الحقبة الملكية من حكم البلاد كما يقول الجادرجي، مبينا أن صورة الشاعر الرصافي بالزي العربي قد التقطت له في حديقة بيتنا بعدسة والدي، الذي كان يعشق التصوير كعشقه للسياسة، مضيفا أن الرصافي كان يحضر الصالون الثقافي الذي يقيمه والدي ويحضره الكثير من الشخصيات السياسية والثقافية والفنية، كالقائد الكردي محمود الحفيد أثناء نفي الدولة له في بغداد، والعديد من ساسة الحزب الذي كان يقوده الجادرجي وكبار العسكريين من سكنة محلة نجيب باشا ومن رجال الفكر والأدباء والشعراء الأساتذة الدكتور احمد سوسة وعلي الوردي وعبد الرزاق الهلالي والمؤرخ جواد علي ومحمد بهجت الاثري والصحفي عادل عوني صاحب جريدة الحوادث، والشاعر بلند الحيدري وأياد سعيد ثابت وفاتح بابان والخطاط العالمي هاشم محمد الخطاط.
 
أم كلثوم في الشارع
الجادرجي يبين أن كوكب الشرق ام كلثوم سكنت الشارع عند زيارتها الاولى للعراق، وكانت الدعوة الموجهة إليها من قبل ابن أحد وجهاء بغداد، الذي كان عاشقا لاغانيه وهو نجل السيد محمد صالح البغدادي، إضافة إلى حفلاتها في بغداد لكنها أقامت حفل غنائي في بيت جمال بابان نائب رئيس الوزراء الواقع في شارع طه، والتقت من خلاله شاعرنا الرصافي، وذكر أن من سكنة الشارع أيضا سلطانة الطرب سليمة مراد، التي كان يتردد عليها الملحن صالح الكويتي وشقيقه داود، 
من أجل البروفات على الألحان والأغاني، ولكن لإقامتها حفلات صاخبة 
داخل المنزل، ما أثّر في هدوء المحلة، والشارع قام طه الهاشمي بإجبارها على ترك المحلة.
في عام 1937  كما يذكر الجادرجي افتتحت أول مدرسة في المحلة وهي مدرسة نجيب باشا المختلطة وأول مديرة لها زوجة السياسي التقدمي الاستاذ عبد الفتاح ابراهيم السيدة عفيفة رؤوف، وكانت اللغة الانكليزية تدرس فيها من الصف الثاني الابتدائي، والكثير من طلبتها هم من ساسة البلد اليوم مثل اياد علاوي والفنان الهام المدفعي وزوجة الشاعر نزار قباني الراحلة بلقيس الراوي، التي توفيت بانفجار السفارة العراقية في بيروت.