بلاغة الشعر الشعبي

فلكلور 2022/06/16
...

  جاسم عاصي
لا يختلف اثنان بشأن بلاغة الشعر الشعبي المتمثلة في (الحسجة)، وقد اتفق علماء الفسلجة حول هذا الموضوع من خلال تشريح الدماغ ومعرفة مواطن أصالة الشاعر وتشكّله الفسلجي والجيني كـ(بافلوف) وتلميذه (نوري جعفر)،
 
المتباين هنا بين النمطين من الكتابة يتمثل في وسيلة التعبير، والمشترك بينهما هو (الشعريَّة)، لذا نجد أنَّ بلاغة الشعبي متأتية من عمق دلالات مفرداته وتركيبه الشعري من جهة، واقتران التعبير بالواقعة من جهة أخرى. وكثيراً ما تكون مواقع التعبير عن الذوق المرهف والحس الإنساني.
ولعلَّ تأثر الشاعر الشعبي بشكلٍ مباشرٍ بالواقعة اليوميَّة ميّزته عن أقرانه، لذا كثُرت المخاطبات الشفاهيَّة بين الشعراء، سواء اقتربوا من بعضهم، أو ابتعدوا عن بعض. فالشعر وسيلتهم للتخاطب.
 
أبو معيشي والواقعة
الشاعر جمعة أبو معيشي كما هو معروفٌ مرهفُ الحسِّ ويستجيب للمؤثر مباشرة، إذ تناقل الناس أقواله الشعريَّة - وهي كثيرة -، اقترنت بحادثة وقعت، أو مشهدٍ رآه. 
وقد استخلص من شعره عامّة الناس العِبرة والحكمة والدرس الاجتماعي. ففي مرَّة كان الشاعر قد مرَّ بـ(الطواشات) وهنَّ مجموع النساء العاملات في فرز ثمار النخيل في موسم قطاف التمر. 
إنهنَّ أجيرات متنقلات وموسميات، وحين رأى جمعهن وانغماسهنَّ في العمل وحُسن جمالهن في ما يرتدين من ملابس ملوّنة، ثارت حفيظته الشعريَّة. ولأنَّ المجتمع في الريف يألف الطيبة والبراءة في العلاقات، فقد منح الشاعر لنفسه الحريَّة على السليقة ودوم تكّلف في التعبيرعما رأى، منشداً:
(سمر يا بيض يعجبني شكلجن 
تميلن ما تكَللـــي شكلتـــن
لوّن واحد على حالي شكلجن 
كلجن بالهجر والله طبعنه)
ولعلَّ البلاغة وحُسن النيّة واضحة في الأبيات. فهو لم يثر حسّاً سلبياً على مجموع النساء، بل اعتبرنَّ هذا منه تقييماً لحسن جمالهنَّ، وحُسن أدائهنَّ في العمل، وقد أخذتهنَّ صيغة الاعتزاز في النفس. 
ولأنَّ الألفة مكتسبة، وطبيعة التلقي والمرمى، يوم كانت البراءة هي الحكم في العلاقات، أجبنَ على قوله ببلاغة أكثر قدرة. 
فهي نوعٌ من التورية لدى الشاعر، في خلق حواريَّة متمكنة، وجميلة وذات مغزى جمالي واجتماعي، حيث ردنَّ:
 
(اشتبي منه يا بو معيشي 
شكلنه ورد جوري بوسط جنه شكلنه
لوّن واحد على حالك شكلنَّ عصرنه
 الزلف وارويناك منه)
 
ردٌّ محفوفٌ بالعفة
ولعلَّ البلاغة في ما قلن واضحة، فهو ردٌّ محفوفٌ بالعفة والثقة بالنفس، وهذا ما يُشير لنا بقوة العلاقات الاجتماعيَّة في الريف، وتلقائيَّة التصرف والبحث عن الجمال والتسرية في الزمن من خلال الشعر. فبلاغته متأتية من المخاطبة المباشرة الحاملة لبراءة الموّقف والنظر. ولنا في شعراء كثر مثل الحاج زاير الذي كانت أبياته الأبوذيَّة منتشرة بين الناس، ومخاطباته الشعريَّة كذلك تملأ المحافل والدواوين، فهم مدرسة في الشعر وفي القيم.
إنَّ بلاغة الشاعر "جمعة أبو معيشي" سواء في هذا القول، أو في شعره بعامَّة، يدلل على فصاحته العاميَّة، وبلغته في عمق (حسجته) والمتأتية من عمق غوره في البنية الاجتماعيَّة، فضلاً عن حسه الطبقي الذي هو الدافع الأساس في صياغات بلاغته في التعبير، وبما يُسهّل تلقي شعره والتأثر به وتناقله لمسافات مكانيَّة وزمنيَّة متباعدة.