بغداد: سينما
"السينما الشعرية" اصطلاحاً وفق رؤية المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي في كتابه الشهير "النحت في الزمن"، هي: "تلك التي تبتعد بجسارة في صورها عما هو واقعي ومادي متماسك، كما يتجلى في الحياة الواقعية"، لكن هذا المصطلح ظل غامضا وربما ملتبسا على الأقل بالنسبة للمدونة النقدية العربية، بحسب مفهومية الناقد السينمائي الجزائري عبد الكريم قادري في كتابه "السينما الشعرية، أسئلة البناء والدلالة" الصادر عن السلسلة المعرفية من مهرجان أفلام السعودية، بالتعاون مع دار رشم للنشر والتوزيع.
يقتفي قادري أثر "السينما الشعرية" موضوعته الأثيرة – سبق أن كتب عنها كتاباً أنيقاً بعنوان "سينما الشعر" – فمن وجهة نظره: "رغم مرور أكثر من قرن وربع على ولادة السينما، غير أن هذا الفن لا يزال حديثاً، إذا ما تمت مقارنته بالفنون والآداب الأخرى، لهذا لم يتم اكتشاف العديد من جوانبه وعناصر بنائه المختلفة"، مستثنياً "الدراسات التي استطاعت أن تواكب بعض هذه الجوانب وتحللها وفقا للسياق المعرفي"، وهذا غير كاف بحسب صاحب "سينما الرؤى" فعلاقة الجمهور بالأفلام تطورت بل وتشابكت في عالم ينام على كف عفريت نووي.
بشاعرية يصف قادري كيف: "انعكست في السينما، منذ بدايتها، العديد من المدارس والتيارات الفكرية والجمالية والأيديولوجية، التي ما إن يخبو توجه حتى يظهر آخر على أنقاضه"، لكن "السينما الشعرية" لم تذبل أزهارها مطلقا"، إذ تسللت بينها، وأخذت منها، واستفادت بمعطياتها حتى تبقى في كامل ألقها وتوهجها"
لاحق الناقد السينمائي قادري "السينما الشعرية" مسلطا الضوء عليها، سابرا أعماقها واتجاهاتها، بدءًا من أرسطو، ومرورا بالمناهج النقدية الغربية، وانتهاء بالترجمات والدراسات العربية التي اختلفت فيها، لأنها مفهوم هلامي يصعب القبض عليه"، إذ تناسل مفاهيم أخرى، على شاكلة "الشاعرية" و "البوطيقا" و"سينما الشعر" و"سينما القصيدة".. وغيرها.
بالإضافة إلى ذلك ركّز الكاتب على "مصطلح "الشعرية" الذي تم توظيفه كمفهوم جمالي، والوقوف على انعكاساته في الفيلم"، وربما هذا يفسر تطرقه إلى موجودات "الكادر" السينمائي، وطرق ضبطه لتوليد الشعرية" مستأنسا بالمنطلقات الفكرية والفلسفية التي"أسهمت في تأثيث حقول الرؤية البصرية والمعنوية"، زاد عليها التعريف "بعناصر مهمة أخرى، تساعد في توليد هذه الشعرية، مثل المونتاج والإيقاع والتصوير، وهي مرتكزات تجسد الشعرية، وتجعلها كقيمة جمالية وحضارية في الوقت نفسه"
ينتقي الناقد الجزائري عبد الكريم قادري بعض التجارب المهمة التي عكست هذا المفهوم، من بينها تجربة أندريه تاركوفسكي المهمة والرائدة، وهو مخرج لم يكتف بتوظيف هذا التوجه في أفلامه فقط، بل نظّر له عن طريق الكتابة، ليصبح مع الوقت أعمق من جسّد مفهوم الشعرية، إضافة إلى تحليل بعض الأفلام المهمة باستخراج شعريتها، على شاكلة : "نوستالجيا"، و"المرآة" لتاركوفسكي، و "عن الأبدية" للمخرج السويدي اري أندرسون، و "هلاوس" لكوروساوا، و"الختم السابع" لبرغمان، وهي نماذج سينمائية جسدت هذا المصطلح من الناحية الجمالية والمعرفية.
الكتاب الذي أسعدنا صدوره لسببين، الأول لأهميته في تعريف بالسينما الشعرية، والثاني كون الكاتب زميلا نعتز به في "سينما الصباح"، أخيراً "السينما الشعرية" إضافة نوعية للمكتبة السينمائية العربية، التي تعاني أصلاً فقراً في هذا النوع من الدراسات.