ملعب البلاط الملكي متحف الرياضة العراقيَّة تحت مظلة الخراب

فلكلور 2022/06/28
...

  يوسف المحمداوي
  تصوير: نهاد العزاوي 
ملعب الكشافة هذا الصرح، الذي يعد متحفا لرياضتنا وارشيفها من غير منازع، لكونه أول ملعب رسمي بني في العراق، حيث يرجع التأسيس فيه للعام 1928، حيث بداية التشييد وفي العام 1932 كان ساحة لأولى الألعاب الرياضية، وليس ملعبا خاصا لكرة القدم، أما عن أول مباراة رسمية أجريت عليه كانت في العام 1938 بين نادي الجيش العراقي ونادي بردى السوري، وكان الفوز فيها حليف النادي العراقي.
من سيئ إلى أسوأ
اليوم حين تقترب من الملعب وبالتحديد من خارجه وترى حجم الدمار والإهمال، الذي أصابه بسبب تغافل المسؤولين عن صيانته وانعاشه بأبجديات الإعمار، لا تملك غير أن تتبنى رسالة " آل باتشينو" التي وجهها الى "ابليس" قائلا فيها  "الأمور هنا تسير على النحو الذي تريد، حيث الناس أصبحوا أكثر سوءا منك"، وأنا أقصد بالناس أصحاب الشأن من المسؤولين، سواء كانوا من وزارة التربية التي تمتلك عائدية الملعب منذ العام 2003 الى يومنا هذا، والملعب التأريخ من سيئ الى أسوأ، ولا يمكن نزع ثياب جريمة التجاهل عن وزارة الشباب والرياضة واللجنة الاولمبية عما يحصل في ملعب جمولي، لكونهم من الأقطاب المعنية بالشأن الرياضي، وعليهم ايجاد السبيل المنقذ لهذا الإرث الرياضي.
 
الجدار وذكريات المراهقين
على الجدار الخارجي للملعب بدلا من أن تجد الاعلانات الضوئية والفسفورية، ترى كتابات بخط رديء وطليت باصباغ مختلفة الالوان لذكريات مراهقين، وأحلام صبيانية، وأرقام تلفونات لورشات تصليح وأخرى لساحبات نقل العجلات العاطلة، وعبارات ما انزل الله بها من سلطان، ليس للرياضة فيها ناقة او جمل، بل ما يزيد المشهد سوءا هو كميات القمامة، التي تحيط بالملعب من الخارج، وكأنه مكبٌ للنفايات وليس ملعبا لكرة القدم، والأدهى من ذلك أن نصب اللاعب الاسطوري جميل عباس والملقيب "جمولي" يتوسط خيمة الإهمال وينظر اليها، بعد أن عبثت بذلك الاهمال أيادي الخراب ولونته فرشاة الجهل وانعدام الذوق بلون اصفر فاقع ناشز، يصيب العين بالاستنكار ما ان يقع النظر عليه، وأنا على يقين لو يراه الفنان الراحل ميران السعدي، الذي قام بنحته لصرخ بأعلى صوته: "هذا ليس نصبي" .
 
جمولي في ايطاليا
"جمولي" اللقب لللاعب الاسطورة جميل عباس، الذي ولد في منطقة الكسرة التي يتوسطها ملعب الكشافة، وترعرع فيها الى أن أصبح من أشهر لاعبي المنتخبات والاندية العراقية، "جمولي"،  كان يلعب للفرقة المدرعة الثالثة، وحصد الألقاب والانتصارات لذلك الفريق، وهذا ما جعل القادة العسكريون في الفرقة أن يبادروا ومن باب وفاء الدين لهذا اللاعب المميز، الى تكليف النحات العراقي المعروف  ميران السعدي الى إقامة نصب تذكاري لجمولي في بوابة ملعب الكشافة، وبالفعل تحقق ما أرادوه لمن يستحق، وقام السعدي بتصنيع النصب في ايطاليا، وفي العام 1968 تم الانتهاء من العمل ونصب في موقعه الحالي، ومن المحزن جدا أن يعيش "جمولي" آخر أيامه وهو يشاهد نصبه، وسط هذا الاهمال الكارثي، علما أن لاعبنا توفاه الأجل في العام 2004، بعد ان أفنى سني عمره في خدمة الكرة العراقية.
 
الحرب والمدرجات
ما أن تطأ قدماك أرض الملعب المتعب حتى تبحر بك الخطوات الى ذكريات الامس، وكأنها تدعوك للمقارنة بين ماضي وحاضر ساحة البلاط الملكي، والتي كانت أول مسميات الملعب لقربه من القصر الملكي، وكانت هناك شرفة خاصة بالملك وأسرته تطل على ساحة الملعب، وحتى بعد تغيير اسمه الى ساحة الكشافة، التي كانت مركز انجازات النشاط المدرسي والكشفي لم يحظَ باسم ملعب الكشافة الا في العام 1942. الملعب الذي كان عاصمة النشاطات الرياضية شيّد ليتسع لـ(15) ألف متفرجا، لكن سقوط أحد الصواريخ عليه اثناء الحرب العراقية الايرانية هدم طرفا مهما من المدرجات، وبدلا من إعمار تلك المدرجات، تم إلغاؤها تماما، وبناء سياج بديلا عن تلك المدرجات، ومن ثمانينيات القرن الماضي الى يومنا هذا بقي الحال كما هوعليه، وكأن هناك أيادي خفية تقوم بمخطط لتدمير أقدم وأول ملعب في البلد. 
ألا من منقذ؟
 الاعلامي هشام كاطع الدلفي في تصريحات اعلامية يصف حال الملعب بمرارة والم "كلنا نسمع في العالم وبين الحين والآخر عن تجديد للملاعب، الا في العراق فملعب الكشافة يبحث عن  عمن يعيد له الحياة، والملعب الذي طالما استقبل منتخباتنا وانديتنا منذ افتتاحه عام 1931  صار اليوم  خربة لا يصلح لشيء، يعود لوزارة التربية ولولا بناء ملعب الشعب الدولي عام 1966، لبقي الملعب الوحيد الذي يحتضن  الفعاليات الرياضية فمن ينقذه؟" بحسب قول الدلفي الذي يضيف:" ارضية الملعب (صبخة) ولا تصلح لأي شيء وينمو فيها العاقول والادغال، وكانها قطعة من صحراء، اما اسيجته فمحطمة وعليها آثار دخان ودمار نتيجة حرق النفايات قربه، والملعب يثير في النفوس الحزن والاسى، جراء الاهمال الذي طال أمده، ويعتبر الخراب الذي حل به جزءا من عملية هدم وتشتيت الانسان العراقي والبلد، وقتل كل ماهو جميل ويوحي بتطور مجتمعنا حاله كحال المسرح والسينما وجميع الأشياء التي تمثل المدنية والتحضر.
 إنَّ الحالة التي يشهدها ملعب الكشافة يندى لها الجبين،  اما  نصب اللاعب الكبير جمولي فهو في حالة يرثى لها، تشهد على ما وصل بنا الحال وكأنه يصرخ، ألا من منقذ لتاريخ الرياضة في العراق؟.
 
الملعب ووزارة التربية
الدلفي يطالب وزارة التربية بأن تتحرك كون الملعب عائدا لها، وعليها التحرك واعادة تأهيل أو بناء ملعب جديد مكانه، كي يحتضن الأنشطة الرياضية، التي بدأت تتلاشى  شيئا فشيئا، وهي كانت الداعم الرئيس لرياضتنا وتخريج ابطال في جميع الرياضات لكن، من ينقذ ملعب الكشافة، سؤال نوجهه الى جميع المسؤولين في بغداد إن كانت وزارة التربية ام الشباب والرياضة أم امانة بغداد، فالجميع مسؤولون عن جمالية المدينة، ولا يمكن أن نترك قلب بغداد متعبا وفي وسطه ملعب الكشافة.
 
مجبل فرطوس والكشافة
يتحدث بوجع وحسرة كابتن المنتخب العراقي ابن منطقة الكسرة اللاعب السابق والمدرب الحالي مجبل فرطوس في حوار مع أحد المواقع الرياضية يقول فيه "منطقة الكسرة هي منبع النجوم، فأغلب اللاعبين الكبار الذين مروا على تأريخ الكرة العراقية هم من الكسرة. 
هذه المنطقة متأثرة بكرة القدم كون هناك ملعب الكشافة يحيط بها، وهو الملعب الأول ببغداد، فقد كنا سابقاً وعندما نخرج من المدرسة نغير ثيابنا ونذهب مباشرةً الى الملعب، فهو يمثل لنا الامل والطموح ورمزا كرويا حيا وأذكر جيداً أنه كان يوجد منفذ من منافذ الملعب خاص بدخول المتفرجين، وكنا نلعب بجانبه كل يوم.
حزنت على الملعب لان وضعه مزر، والمدرجات تالفة الى حد كبير، والأرضية حدّث ولا حرج، وكان من المفترض أن يكون هذا الملعب قدوة لكل ملاعب العراق، ولكن للأسف الاهتمام بهذا الأرث شبه معدوم.
في استطلاع لجريدتنا الصباح العام الماضي بقلم الزميلة فجر محمد بينت فيه "على مقربة من مقهى "ايام زمان"، لا يمكن أن يغفل الزائر لمنطقة الكسرة عن مشاهدة تمثال الشخصية الرياضية، التي كان لها أثر وتأثير في الرياضة العراقية، وهو جميل عباس جميل الملقب بـ (جمولي) او كما يحلو لزملائه ولمحبي الرياضة آنذاك أن يطلقوا عليه لقب السد العالي، لكن هذا التمثال بدا مهملا وترك الزمن آثاره الواضحة عليه، وفي الجهة المقابلة لجمولي كان ملعب الكشافة الأثري، الذي تمَّ تشييده عام 1928  شاخصاً للأنظار وبحاجة إلى التفاتة هو الآخر.
 
صرح تاريخي
مدير الرياضة المدرسية والمسؤول عن الملعب والحكم الدولي السابق نجم عبود تحدث عن عراقة الملعب واهميته قائلاً إن "تاريخ تشييد ملعب الكشافة يعود الى عشرينيات القرن الماضي، ومنذ تأسيسه ولغاية اليوم، يعد ارثا رياضيا تخرجت منه المئات من الشخصيات الرياضية المهمة، ولكنه اليوم آيل للسقوط وبحاجة إلى الترميم، وفي إحدى المناسبات الرياضية تعرض أحد الطلاب المشاركين الى الاذى بسبب تهالك مدرجات الجمهور، لذلك فهذا الملعب بحاجة الى اهتمام وترميم".
في دول العالم المختلفة والمجاورة يجري الاهتمام بالملاعب الرياضية، خصوصا تلك التي تعد من الاماكن الاثرية، التي انتجت أجيالا حفرت أسماءها في تاريخ الرياضة بعمق، واليوم يناشد المسؤولون عن الملعب الجهات المعنية، أن تنظر إليه بعين الرعاية والاهتمام وألا تهمل هذا الصرح التاريخي.
 
الكشافة وكأس العرب
مدير ملعب الكشافة علي فاضل تحدث عن اهمية هذا المكان قائلا "لقد احتضن هذا الملعب الفرق الرياضية والدولية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، كما ضمَّ اشهر السباقات الرياضية على مستوى العالم والوطن العربي آنذاك، ومن الجدير بالذكر أن أيقونة الرياضة واللاعب اللامع جمولي ارتبط ارتباطا وثيقا بهذا الملعب، خصوصا بعد فوز العراق بكأس العرب عام 1966".  في كل ملاعب العالم المهمة هناك مواصفات وصفات معينة، لا بد أن تتمتع به تلك الصروح الرياضية، لكي تتمكن الفرق من مزاولة نشاطاتها بكل أمان واطمئنان، وملعب الكشافة اليوم بحسب مدير الرياضة المدرسية نجم عبود ينقصه، هذا الامر لذلك يناشد الجهات ذات العلاقة أن تقوم بترميمه والاهتمام به، ومن الجدير بالذكر أن هناك مستثمرين يرغبون بالاستثمار في هذا الملعب، ويحتاجون الى الموافقات الاصولية، كي يقوموا ببنائه وترميمه من جديد.
 
ملكية الملعب 
في استطلاع مهم اجراه الاعلامي عبد الجبار العتابي لمجلة الشبكة العراقية يبين لنا حقيقة ملكية هذا الصرح المهم يقول فيه "كانت ملكية أو عائدية الملعب في البداية إلى وزارة المعارف (التربية)، ثم انتقلت إلى الإدارة المحلية ـ ما تعرف اليوم بمحافظة بغداد ـ ومن ثم إلى نادي الجيش الرياضي، وفي الثمانينات انتقلت الملكية الى اللجنة الأولمبية، ثم رجعت ملكيته بعد عام 2003 الى وزارة التربية، وكانت مديرية التربية البدنية التابعة لوزارة المعارف آنذاك هي الجهة المسؤولة عن الحركة الأولمبية والاتحادات الرياضية في العراق، حتى استحداث وزارة الشباب عام 1967، وقد أُلحقت الرياضة الأهلية واللجنة الأولمبية والاتحادات الرياضية الوطنية والأندية الرياضية بوزارة الشباب، كما أُلحقت المديرية المذكورة بكامل فروعها وشُعَبِها بالوزارة بموجب قرار (مجلس قيادة الثورة المنحل) رقم 556 في الثلاثين من تشرين الأول عام 1969".
 
أول ظهور لناظم الغزالي
 العتابي يبين لنا "لأن الساحة كانت مخصصة لنشاطات وزارة المعارف، فقد كانت تقيم عليها مخيمات كشفية للطلاب، يظهرون من خلالها مهاراتهم ومواهبهم الفنية والثقافية، وبحسب الناقد الموسيقي عبد الوهاب الشيخلي (ت عام 2007)، فإن المطرب ناظم الغزالي (1921 – 1963) بدأ من ساحة الكشافة (عندما لمس «رجاء الله الزغبي» معلّم النشيد في المدرسة المأمونية في ناظم الغزالي القدرة على حفظ وترديد أغاني كبار المغنين, أشركه في المخيم الكشفي، الذي أقيم عام 1936 في ملعب الكشافة، وتعد هذه الممارسة أولى الخطوات على طريق احتكاك هذا الفنان بالجمهور).
 
خاتمة الرحلة
يتلفت القلب وانت تودع الصرح التاريخي المهمل، حيث حضور الملك والوصي ونوري السعيد، حيث يواكبون لأغلب النشاطات الرياضية، هناك المقصورة حيث جلس عبد الكريم قاسم، وكان آخر حضور لعبد السلام عارف في الملعب بنهاية كأس العرب ووعده بمكرمة للفريق العراقي، والتي لم يحصل عليها المنتخب لكون بعد المباراة ركب عبد السلام عارف طائرته متوجها الى البصرة، لكن طائرته سقطت في سماء القرنة لتذهب معه المكرمة!، الملعب الذي تخرج منه جمولي، فانوس الاسدي، مجبل فرطوس، زهراوي جابر، عناد عبد، وغيرهم من أبطال الألعاب الرياضية الاخرى يصرخ بكل وجع الاهمال وأنا اشاركه الصراخ بقول الشاعر:
تعفو المنازل إن نؤوا عنها وتغبر البلاد
والحي أولى بالبلى شوقًا إذا بلي الجماد