مع انهيار خلافتها.. «داعش» تبدأ بذاراً جديداً

بانوراما 2019/03/26
...

لويزا لوفلاك  ترجمة: انيس الصفار                                             
 
الطريق الممتد نحو آخر بقعة ارض كانت هي المتبقية من “دولة داعش” في شرق سوريا يسوده الهدوء لمعظم اجزائه، إذ تمضي القوات المدعومة أميركياً عليه داخل عرباتها المدرعة في سير متمهل عبر الحقول المزهرة. هنا وهناك ينتشر الاهالي المحليون منشغلين بجمع الكمأ، بينما تجوب الكلاب السائبة الاجزاء المكشوفة من الارض لتحفر هي أيضاً، ولكن بحثاً عن جثث تخلفت من معارك سابقة دارت في هذا المكان. 
ما أن وصلت المركبات الى “السوار”، وهي بلدة مغمورة على الطريق المؤدي الى آخر معقل يتحصن فيه الجهاديون حتى اتخذ المقاتلون وضع التأهب وأعدت الاسلحة وكبس سائقو المركبات على دواسات الوقود منطلقين نحو هدفهم. قال لي مقاتل شاب ذات مرة: “هذه المنطقة ليست آمنة، فنحن نعلم ان لديهم فيها خلايا نائمة، كما نعلم أنهم يراقبوننا.”
كان آخر عناصر “داعش” المتبقين على حافة تلك القرية، يقف على الاشبار القليلة المتبقية لهم من شبه دولتهم بينما انكفأت الجماعة الارهابية، قبل انتهاء صوت الرصاصات الأخيرة فيها، عائدة الى جذورها الاولى كحركة تمرد صغيرة لكي تباشر بذر خلاياها النائمة داخل جحور وكهوف نائية على امتداد انحاء سوريا والعراق التي كانت تجثم بكل ثقلها فوق اراضي البلدين ذات يوم. ومن هذا الموقف حذرت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) من إطالة البقاء في القرى، التي اصبحت من الناحية الفنية تحت سيطرتها، على امتداد الطريق المؤدي الى بلدة باغوز الذي يفترض بأنه آخر معاقل “داعش”. يقول السكان المحليون ان الاغتيالات باتت تتصاعد، والارهابيون ينصبون نقاط تفتيش خلال الليل ثم يتبخرون قبل انكشاف الفجر.
 
العودة إلى دير الزور
كانت فوضى الحرب الاهلية السورية وانهيار بعض القطعات البعيدة لقوات الامن العراقية ما وراء الحدود هما اللذان مكنا “داعش” من تحقيق نهوض غير مسبوق على رقعة من الارض كانت تعادل مساحة بريطانيا. اما اليوم، وبعد ان تناثر من تبقى من عناصرها على امتداد صحارى وبراري البلدين، فلم يعد هناك ما يوحي بأن “داعش” ستستعيد اي قدر يذكر من الارض خلال وقت قريب. بيد ان الخبراء يحذرون من ان الاشهر المقبلة قد تكون حاسمة لتحديد ما اذا كانت الجماعة ستتمكن من زعزعة الامن الذي لا يزال هشاً وتهيئة المسرح لعمليات عنف جديدة.
يقول الخبراء ان التربة في محافظة دير الزور، التي اختارتها “داعش” لتقف فيها وقفتها الاخيرة، لا تزال خصبة بشكل غير اعتيادي لنشاطات هؤلاء المتشددين. فالخلايا السرية ما زالت تتحرك عبر العديد من المناطق التي يصعب فيها احكام المراقبة على القرى المدمرة والمساحات الشاسعة من الاراضي الصحراوية. 
في العراق، على الجانب الاخر من الحدود المثخنة بالثغرات، استعادت الحكومة المركزية السيطرة على جميع المناطق التي كان يحتلها مسلحو التنظيم، غير إن الفساد والطائفية لا يزالان يمثلان مشكلة، كما أن ضعف الثقة القديم المتبادل بين اهالي تلك المناطق وقوات الامن الحكومية لم يذهب بعد، وهو المبرر الذي استمدت منه “داعش” سابقاً الدعم المحلي لتقوية وجودها هناك.
يقول حسن الحسن مدير الابحاث في مركز السياسة العالمية الذي مقره واشنطن: “احدى نقاط الضعف المهمة هنا هي الثقة، هي التساؤل المستمر .. هل ان هذه القوات هنا لمساعدتك أم لمراقبة تحركاتك؟ هل هي هنا لإحكام الامن لمنطقتك أم لاستغلالك؟”. فقد كان تنظيم “قوات سوريا الديمقراطية” أو (قسد)، المدعوم اميركياً، في بداية تكوينه قوة من الكرد السوريين، بيد ان هذه القوة اخذت تضم الى صفوفها مجندين من الاهالي المحليين، كلما توغلت اكثر واستمر اندفاعها داخل المناطق ذات الغالبية العربية شرق سوريا لكي تطارد قوات “داعش” منها. يقول مقاتلو “قسد” وجماعة المراقبة المسماة “دير الزور24” ان عشرات المقاتلين العرب الذين كانوا مرتبطين بتنظيم “داعش” اصبحوا اليوم جزءاً من هذه القوة التي تدعمها أميركا. ويعتقد المقاتلون المحليون أن المدنيين وبعض المنخرطين الجدد في صفوف “قسد” يسربون المعلومات التي تمكن خلايا “داعش” النائمة من استهداف قادة الحركة على الطريق الآتي من البصيرة، ما يعني ان ضعف الثقة ما زال هو الحديث السائد لدى كلا الطرفين. فيقول مقاتلو الحركة أنهم كانوا يقودون مركباتهم ذات يوم مسرعين حين رأوا اشخاصاً يركبون الدراجات النارية ويتابعون حركتهم كالصقور، ولا يزال اسفلت الشارع متفحماً الى الان في احدى النقاط على هذا الطريق مؤشراً موضع الانفجار الذي استهدف جنوداً من التحالف الغربي وقوات “قسد” الكردية مطلع العام الحالي.
 
استرضاء العشائر
يعتقد مقاتلو “قسد” والدبلوماسيون الغربيون أن مئات المتشددين قد نجحوا في الهرب من باغوز خلال الاسابيع الاخيرة، والكثير منهم دفعوا مبالغ كبيرة للمهربين لقاء ايصالهم بسلام عبر الحدود العراقية او الى مناطق تسيطر عليها الحكومة السورية. وكانت قيادة قوات “قسد قد اعلنت، مطلع الشهر الحالي، أنها اطلقت سراح 283 سورياً كانوا يعملون مع “داعش” ولكنهم، كما ادعت، ممن “لم تتلطخ ايديهم بالدماء” ووصفت الخطوة بأنها بادرة “تعاون وإخاء وعفو”. إلا أن أحد المسؤولين السوريين وصف العملية بأنها استرضاء لبعض العشائر المحلية القوية التي طالبت بإطلاق سراح ابنائها. يمضي المسؤول قائلاً: “لا يعلم احد الى ماذا ستفضي مثل هذه الصفقات وهي تثير لدى كثير من الناس مشاعر الضيق وعدم الارتياح.”
يقول بعض السكان المحليين أنهم يشعرون أيضاً بأنهم موضع شك من قبل عناصر قوات “قسد”. ويضيف رجل تحدث مشترطاً عدم ذكر اسمه خوفاً على سلامته أنه اعتقل وتعرض للتعذيب قبل اشهر على يد تلك القوات التي تدعمها الولايات المتحدة، لأن 
شخصاً أبلغ السلطات بأنه كان يستخدم الهاتف في المنطقة التي شهدت احد الانفجارات.
إعادة تشكيل مستقبل المحافظة سوف تبقى مرهونة بما اذا كانت الولايات المتحدة ستكمل انسحابها العسكري المخطط له من هناك، وبالكيفية التي تنفذ بها ذلك. وتباشر الدولة السورية حالياً السيطرة على نحو نصف المحافظة، وقد أقسمت القوات السورية على استعادة ما تبقى من المنطقة بالقوة اذا ما اقتضت الضرورة.
يقول حسن الحسن، معبراً عن عدم الاطمئنان من تطورات مستقبلية سريعة للمنطقة: “على أحد ما ان يضمن تمكن القوات التي على الارض من التعامل مع اي سيناريو آخر يبرز الى الوجود”، إذ يتوقع مدير الابحاث في مركز السياسة العالمية أن لدى قوات الامن السورية والسلطات المحلية ما بين سنة واحدة وسنتين للتدريب والاستعداد ورفع مستوى الخدمات قبل انبثاق حركة التمرد الجديدة.
يضيف الحسن مفسراً: “خلال هذه الفترة يكون الزخم قد بدأ يخمد ليتغلغل الى النفوس بدلاً منه شعور بالاطمئنان والرضا. كذلك هي الفترة التي يحتاج اليها المتشددون لاستيعاب الانماط الروتينية التي ستتبعها قوات الامن بدرجة تتيح لهم شن حركة تمرد جديدة تتمتع بمقومات الاستمرار.”
 
التسلل عبر الحدود
أما بالنسبة للحكومة العراقية فإن التحديات أكبر وأخطر لأن المئات من متشددي “داعش” تمكنوا من عبور الحدود خلال الاسابيع الاخيرة قادمين من شرق سوريا رغم مساعي القوات العراقية لتكثيف تواجدها هناك، ومن المعتقد أن هناك بضعة آلاف غيرهم يكمنون في المناطق النائية بانتظار فرصة سانحة لهم للنفاذ الى الاراضي العراقية. لكن الناطق باسم قيادة العمليات في العراق العميد يحيى رسول ينفي الادعاءات بأن بعض المتشددين قد تمكنوا من اختراق الحدود قائلاً: “لقد انطلقت قواتنا لتنفيذ عمليات لتطهير الصحراء وهي منطقة معقدة، مع إن قدرة الارهابيين على احداث الضرر محدودة، كما إن تطهير العراق بكامله من تواجدهم ليس إلا مسألة وقت.”
رغم هذا استعادت بعض الخلايا النائمة نشاطها في عدد من محافظات العراق الشمالية وصارت تنفذ عمليات الاختطاف والقتل ونصب الكمائن للاشخاص الذين يرتبطون بعلاقة ما مع الحكومة او الاجهزة الامنية، كما عادت آلة الابتزاز وجباية الاتاوات تدور. اليوم يسجل موقع النزاعات المسلحة ومشروع بيانات الحوادث اكثر من 60 حادثة ترتكبها عناصر تلك الجماعة شهرياً كمعدل.
تحذر جماعات حقوق الانسان ايضاً من ان كثيراً من الناس الذين عانوا الأمرين من سطوة “داعش” اصبحوا الان هدفاً لأعمال المداهمات من جانب قوات الشرطة والجيش، وحتى افراد من ابناء عشيرتهم أو طائفتهم نفسها، الامر الذي يعكس شكوكاً شائعة بأن النجاة من شرور “داعش” قد تكون شهادة على التواطؤ مع التنظيم.
يخشى الباحثون من أن هذه المعاناة إذا ما استمرت، مضافاً اليها مظالم جديدة ناشئة عما قد يفسره البعض بأنه عقاب جماعي للمناطق ذات الاغلبية السنية التي كانت واقعة تحت سيطرة “داعش”، يمكن ان تعيد الى التنظيم الارهابي مقبوليته في أعين الاهالي.
تقول مارا ريفكين، وهي متخصصة من كلية القانون بجامعة ييل وتعمل بالتعاون مع وفد المنظمة الدولية للهجرة في العراق: “لدى المدنيين اسباب عديدة للتخوف من اجهزة الشرطة بسبب تجاربهم القديمة مع الاجراءت التعسفية والمداهمات، ولكن الشرطة ايضاً لديها اسباب مشروعة للتخوف من المدنيين الذين يصعب احياناً تمييزهم عن المتمردين الارهابيين الذين يخوضون حربهم بأساليب غير متناظرة”. وتختتم ريفكين تعليقها بالتحذير قائلة: “لذلك نواجه هنا وضع ارتياب متبادل وهي مشكلة يصعب حلها.” 
تشارك ريفكين ايضاً بدراسة تتحرى ما اذا كان بوسع اجراءات الضبط التي تفرضها اجهزة الشرطة على مجتمعات معينة ان تسهم بسد هذه الثغرة المتعلقة بالثقة.
تمضي ريفكين موضحة: “التقاء كل هذه العوامل المزعزعة للاستقرار معاً في وقت واحد مسألة مقلقة للغاية.”