مآلات الليبرالية

آراء 2019/03/27
...

علاء هاشم
 
يمر الرهان الليبرالي اليوم، بتحدٍ حاسم في ميزان الشرط الإنساني والأخلاقي، أمام مشاهد القتل والموت والدماء، والأشلاء الممزقة والمبعثرة في أكثر من بقعة ومكان بالعالم، مشاهد لا تحرك الضمير الإنساني لدى الولايات المتحدة وبعض دول أوروبا، هذه الدول التي تفقد انسانيتها يوماً بعد يوم عند أي امتحان خارج حدودها الجغرافية، وتتبخر بالنسبة لها كل قيم الحرية والعدالة على حدود الضفة الشرقية للبحر المتوسط، لتصبح حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية وغيرها من الشعارات التي ترفعها، بمثابة دعابة سمجة، وإلا لرأينا لها أثراً، إزاء ما تقترفه الطائرات السعودية من أعمال وحشية وهمجية، على سبيل المثال، وهي حرب تخلو من أي غرض، سوى الانتقام والإذلال، وهي صورة جلية لما تبدو عليه الجرائم الإنسانية 
المعاصرة.
خلال العقود الأخيرة ظهرت مقولات ذات دلالات رمزية، عملت القوة الناعمة المتمثلة في الإعلام والصحافة الغربية، على الترويج لها، مثل مقولة نهاية التاريخ والانسان الأخير التي رددها فرانسيس فوكوياما، ونظرية صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي لصموئيل هنتغتون، إضافة إلى فكرة تقسيم دول الشرق الأوسط وتفكيكها لبرنارد لويس. 
هذه المقولات كانت محوراً جوهرياً لدولة عمرها قرنان من الزمن، ينقسمان إلى قرن من العبودية العرقية وثانٍ من الفصل العنصري، وفي حين تقدم نفسها داخلياً وخارجياً على أنها أقدم ديمقراطية في العالم، ولم يسمح للنساء فيها بالتصويت في القرن الأول ونصف من عمرها، ومع ذلك تقوم بوصف نفسها بالديمقراطية 
لأقدم.
ويبدو لي أنَّ الحديث عن الليبرالية بوصفها نظرية نهاية التاريخ ليس سوى استعادة لمقولة الخلاص التي تسم العقل الايديولوجي في الغرب، سواء الديني أو القومي، فهي لم تعمل في نهاية الأمر إلا على زج الإنسانية- التي زعمت خلاصها- في مآزق وأزمات أكثر تعقيداً واستعصاء. ولم يكن مآل النخب الليبرالية في العالم العربي أقل بؤساً من مآل سواها من الايديولوجيات؛ حيث فشل الخطاب الليبرالي، بكل ما يحمله من وعود المساواة والعدل والحوار واحترام الآخر، في أن يشكل نافذة الى مستقبل انساني يسوده السلام والتآخي مقاوماً في ذلك كل أشكال التوحش والتعدي والاستئثار والأنانية ليشكل حقاً نهاية التاريخ، ولم تستطع الليبرالية العربية التصدي لموجات التطرف الدينية، ولم تتمكن من بلورة مشاريع نهضوية، وترسية أرضية من القواسم المشتركة إنسانياً، بل انشغلت بصراعات جاءت بخيبات نجني ثمارها في هذه المرحلة.
 فكل ما نجده من بقايا الليبرالية يتجسد في تثبيت الكيانات والمحاصصات التي وَجدت فيها السلطة قوتها، والكل تقريباً فشل في تكوين منطق الدولة والمواطنة لمواجهة الانقسامات الحادة التي تعيشها بلدان المنطقة. كما أنَّ هذا الفشل الليبرالي مهّد لصعود التوحش الديني الذي لا نملك، لحد الآن، من القوة ما يكفي للوقوف أمامه ومجابهة سمومه 
وانفعالاته.
وفي الوقت الذي نطمح فيه أن تدشّن البشرية عهداً كونياً جديداً أكثر انحيازاً للقيم الانسانية، يباشر الغرب انقلاباً على الإرث التنويري في أوروبا، التنوير الذي قال بالمساواة بين الناس، وتضامنهم من أجل العدالة السياسية والاقتصادية، وحقوقهم في الاعتقاد والاختلاف، وتجاوز كل الاعتبارات العنصرية أو الاثنية أو القومية، دون حواجز وسدود بين البشر تعيق تواصلهم وانتماءهم الانساني.