واحدة من أبرز ساحات الصراع الفكري التي مرت على البشر في تاريخهم الطويل هي معايير قيمة الإنسان ومكانته. ولعل القطبين الأبرز في ساحة الصراع الطويلة هذه، هما ارجاع هذه القيمة الى عوامل متنوعة كالمكانة المتوارثة والوجاهات الاجتماعية المختلفة، من جهة، وبين فحوى ما يقدمه من عمل، من جهة اخرى.
في المجتمعات التي انجزت مراحل التحديث الاجتماعي، أو قطعت فيه أشواطاً طويلة، يمكن أن نلاحظ ان معايير الكفاءة الفردية اكتسبت أهمية أكبر. فبدلاً عن مكانات النبلاء الاقطاعيين والارستقراطيات العائلية المتوارثة، تحول التركيز الى دور الفرد ونشاطه. ولم يقتصر هذا على الجانب الايجابي وحده، وانما كانت له نتائج جديدة لم تكن موجودة في تراتبيات الماضي المستقرة اجتماعياً. مثل ما نجم عن تفكيك للبنى الاجتماعية القديمة، وتحويل العالم الى ساحة منافسة كبرى دائمة، وما يرتبط بذلك بالضرورة من شعور اكبر باغتراب وقلق روحيين. مع هذا، فان التركيز على الفرد نفسه، بمعنى كفاءته واستعداداته وامكاناته، اصبح عنصراً مهماً لا يمكن اغفاله رغم انه لم يمس العنصر الوحيد المهم حتى في البلدان الاكثر تقدماً.والآن بالعودة الى مجتمعاتنا العربية، التي افاقت ذات يوم على طبول التحدي الحضاري الغربي، ولما تزل الى يومنا مضطربة حائرة مترددة بين ما كانت عليه وما بات مطلوباً بالحاح، فيمكن القول انها، وإنْ تلقت ووظفت بعض منجزات التقنية، وتضعضع فيها الكثير من القيم الاجتماعية القديمة - دون ان ينبثق ما هو جديد حقاً في الوقت نفسه – فان قيمة الإنسان ومكانته لا تزال الى حد بعيد امتداداً لاعتبارات الماضي. ومن النادر ان نلاحظ مجالاً لكفاءة الإنسان الفردية يمكن ان تشق طريقها فيه بديناميتها الذاتية، او أن يُفسح لها المجال، على الأقل، لأن تفعل ذلك. فالاعتبارات الشخصانية بانواعها، فضلاً عن الانتماءات المحلية، العائلية والقرابية والمناطقية، كلها تلعب ادواراً مهمة في تشكيل الهياكل المؤسساتية والاجتماعية، على مستوى الدولة او على مستوى المجتمع.
أضف الى ذلك ان مجتمعاتنا العربية عموماً، تهتم بالمظاهر اكثر من البواطن، وتحث في السياق الاخلاقي على تماهي الفرد مع الأعراف والسيكولوجيا الجمعية، اكبر بكثير مما تحث على مغزى الفعل الأخلاقي نفسه. وهو امر معروف، وتناولته اعمال ادبية وفكرية اصبحت من كلاسيكيات النتاج العربي الثقافي، من شخصية (سي سيد) في ثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة، الى مقاربات “ازدواجية الشخصية” (بما لها وما عليها) في كتابات علي الوردي، وغير ذلك كثير.
إن ربط قيمة الانسان بعمله، ليس أمراً بديهياً او تحصيلاً حاصلاً، رغم انه معروف كثيراً. بل هو تصور يترسخ في سياق تحول اجتماعي كبير، من المجتمعات السكونية وتراتبياتها الهرمية وعلاقاتها الشخصانية، الى مجتمعات ديناميكية فيها من شفافية المعايير الفردية ما يفسح لكفاءة الفرد اهمية اكبر، وبالتالي تقييمه على هذا الأساس.