في عيد رأس السنة المندائيَّة.. من نصوص التعميد في الأعياد

فلكلور 2022/07/21
...

  باسم عبد الحميد حمودي
أقيمت يوم السبت الماضي مراسم الاحتفال بعيد رأس السنة المندائيَّة (عيد دهوا ربا) وهو يوم العيد الكبير الذي يحتفل به المنتمون الى دين النبي يحيى المعمدان, سادة الماء وممارسو ذلك الارتماس الفريد وعاشقو الأمان والطبيعة والحب والإيمان بخير الإنسان.
 
معتنقو الدين الثالث
المندائيون في العراق اليوم هم معتنقو ديانة الدين الثالث بعد المسلمين والمسيحيين, وديانتهم من أقدم الديانات الموحدة في تاريخ الأديان ,هم من أحناف الجزيرة العربيَّة قبيل ظهور الإسلام ومن أقطابهم (ورقة بن نوفل) و(سلمان) قبيل إسلامه.
وكلمة (صابئة) مشتقة من الجذر (صبأ) أي اصطبغ «أو غطس بالماء أي (ارتمس), وأركان الديانة المندائيَّة تقوم على الشهادة والتوحيد؛ أي الإيمان بوحدانيَّة الخالق العظيم والصباغة؛ أي الارتماس والصلاة التي تتم ثلاث مرات في اليوم الواحد (صباحاً وظهراً وعصراً).
لا علاقة للمندائيين بصابئة حران القدامى الذين كانت ديانتهم تقوم على عبادة الكواكب.
وينتشر المندائيون العراقيون اليوم في العراق حول نهر دجلة, في مدن بغداد والعمارة والبصرة والبلدات المجاورة للأنهر, والبعض منهم يسكن الضفة الشرقيَّة من شط العرب, لكنَّ عددهم في العراق تناقص من مليون الى مئة آلف بسبب الهجرة والانتشار في بقاع الأرض, رغم حبهم لوطنهم وإيمانهم به.
يؤمن المندائيون بنبوة (يحيى) عليه السلام وآبائه بدءاً من آدم وإبراهيم الخليل عليهم السلام.
 
(الكنزا ربا)
هاجر الصابئة المندائيون - في أحد الآراء - من فلسطين في القرن الأول الميلادي الى العراق وإيران بعد اضطهاد اليهود لهم, حيث وجدوا الأمان لعبادتهم المرتبطة بالمياه الجارية حيث يقومون بـ(الارتماس), وهو إحدى ممارساتهم الدينيَّة في الأعياد والمناسبات, في الولادة والزواج والوفاة أي ما يسميه علم الفولوكلور بـ(دورة الحياة)، ويعدُّ المندائيون الماء ضرورة دينيَّة لأنهم يرتمسون به, فضلاً عن كونه ضرورة حياتيَّة.
كتاب المندائيين الأساسي هو كتاب الكنز العظيم (الكنزا ربا) أو كنز الرب, لكنَّ لهم كتباً أخرى للترتيل والتعبد وتأدية الطقوس الدينيَّة ومنها - كما جاء في كتاب رشيد الخيون في الأديان والمذاهب- كتاب الأنفس (سيدرة أدنشماته) وكتاب (النياني) وهو كتاب ترتيل وإنشاد، وكتاب (القلستا) أي أصول الزواج, وكتاب (ترسو الف سيالة) ويعني العنوان (اثنا عشر ألف سؤال)، علاوة على كتاب (تعاليم يحيى) الذي جمع داخل الكنزا ربا, مع كتبٍ أخرى.
يكتب كهنة الديانة المندائيَّة كتبهم المقدسة باللغة الآراميَّة وبحبرٍ خاصٍ ومقدسٍ, قبيل أنْ تقوم المطبعة الحديثة برسمه وتكوينه طباعياً.
 
الحبر المندائي
وللأهميَّة أقول إنَّ رجال الدين المندائي كانوا لا يسمحون لسواهم بالاطلاع على النصوص المندائيَّة المدونة بحبرٍ مندائي يسمى (ديوثا), ولكل كاهن حبره الخاص الذي يحفظ على شكل بلورات تذاب في الماء عن البدء بالكتابة كما يذكر سليم برنجي في كتابه (الصابئة المندائيون)، وطريق تحضير الحبر المقدس تتم بمزج الغراء الخاص بماء النهر، ويترك الى أنْ يذوب فيه, ثم يغلى المزيج الى درجة التبخر مدة ستة أيام ويقوم الكاهن بعد هذا بسحق المزيج وخلطه بمسحوق الفحم بنسبة مثقال واحد من الفحم الى خمسة وعشرين مثقالاً من الغراء, لمدة 4 - 5 أيام, وبعد أن يصبح المزيج عجينة يغلى مرة أخرى ليتحول الى بلورات بعد التبخر.
وعند استخدام حبر الكتابة المقدس يتلى عليه دعاء (أسوثة – ملكه أي صلاة التسليم).
لا يكون المندائي مندائياً إلا إذا عُمّدَ بالماء وفق أصول وتراتيل خاصة, والتعميد هو (المصبتا) باللغة المندائيَّة – الآراميَّة, ويتم بقراءة نصوص من كتاب الانفس (سيدرا أد نشماتا) وعلى الكاهن القيام بالتعميد الذي يتكون من ثلاث غطسات في الماء الجاري, وثلاث ارتماسات لجبهة المتعمد بالماء مع تفاصيل أخرى.
وللمصبتا – التعميد, أنواعٌ, انفرادية وعامة, تختص بالكهنة أو بأفراد الديانة, ولكل حالة طقسها الديني الخاص وتراتيلها, لكننا هنا نستعين بالتراتيل الواردة في كتاب (التعميد المندائي) الذي ترجمه عن المندائية الشيخ رافد الشيخ عبد الله الشيخ نجم، لما فيها من نفحات روحيَّة شعريَّة تستثير القارئ العام.
 
نص لتطهير النفس
أنت أتيت, أنت أتيت وليس غيرك يأتي أحد
وبنورك يشعر الفرسان بالخوف
وبضيائك تتخلل الممالك والبوابات
ومن رؤيتك يغير الماء الجاري مجراه
وترجع امواج البحر
وجزر البحر تلقى الاضطراب
وينشق أرز لبنان
وتهتز الجبال وتقفز مثل قفزات الأيل
عندما رفعت روح الشر (روها) صوتها
وصرخت عالياً
لماذا خلقتني يا إلهي
لماذا جعلتني بعيدة وقطعتني وتركتني في أعماق الأرض
الكل نهضوا وصلوا
وغنت أصواتهم للبهاء الواسع
والضياء الذي يفوق كل الاضواء
أخذني وعمدني بالماء الجاري
باسم الحي
ما الذي فعله أبوك من أجلك أيها الإنسان
في اليوم العظيم الذي به ولدت؟
أخذني وعمدني بالماء الجاري
وصعد الى الشاطئ فقومني
كسر الخبز المقدس (بهثا) أعطاني
ووضعني بين ركبتيه
ونطق اسم الحي العظيم
وتسلق الجبل أمامي
ناداني بصوتٍ عالٍ كي أسمعه
قال
إذا كانت لديك قوة أيها الإنسان فتعال
رفعت عيني الى السماء وتطلعت الى دار الحياة الأبديَّة
وتسلقت الجبل وما وقعت
وأتيت فوجدت حقيقة ذاتي
إنَّ نصوص التعميد المندائيَّة غنيَّة بالعاطفة والخوف والحب والدعوة الى النقاء والسعي الى طمأنينة العالم الذي تحرسه الروح الإلهيَّة السامية.