لطالما كانت المعركة ضد تنظيم داعش أكثر من مجرد كونها عسكرية، فمع مشارفة القتال في سوريا على نهايته، تلوح مخاوف من أن التعافي البطيء الذي تشهده المناطق المحررة في العراق قد يوفر مناخاً أمام ظهور تعاطف جديد مؤيد لداعش. بعد مرور قرابة العامين على تحرير الموصل من قبضة مسلحي التنظيم، لكن الذي لم يتغير في ثاني أكبر مدن العراق هو ركامها، مع محدودية الخدمات وعمليات اعادة الإعمار. لكن الذي تغير بالفعل هو التوقعات العالية منذ تموز العام 2017 وفترة النهضة التي عاشتها الموصل بعد مرحلة داعش، معززة بضخ الاموال وحسن النية من قبل الحكومة العراقية والدول الغربية، التي شهدت تراجعاً مع تسلل الاحباط الى أهلها.
فبدلاً من بث الأمل، ساد القلق المتنامي بين العراقيين والمسؤولين الغربيين وفرق الاغاثة على حد سواء، من أن عدم تحقيق اي تقدم ملموس في الموصل، وغيرها من المحافظات ذات الاغلبية السنية، قد يذكي من جديد ايديولوجية مناهضة للحكومة ومؤيدة لداعش.
إنذار
استغرقت معركة استعادة الموصل تسعة أشهر، قُتل خلالها الآلاف من المدنيين وسويت أجزاء واسعة من المدينة بالأرض، واليوم، هي بحاجة لملياري دولار لاعادة إعمارها، وفقا لتقديرات الحكومة، بضمنها 50 مليوناً لمشروع إعادة بناء الجامع النوري الكبير بتمويل من دولة الامارات العربية المتحدة. لكن تلك الجهود تباطأت لأسباب تتعلق بالبيروقراطية والفساد والاقتتال السياسي الذي حصل بعد انتخابات العام الماضي، والشهور التي تلت لتشكيل حكومة جديدة، فضلاً عن التهديدات الأمنية التي تشكلها خلايا داعش المتبقية في العراق.
تقول أنكوتا هانسن، مديرة المعهد الديمقراطي الوطني، (NDI) والمقيمة في العراق، وهي منظمة غير ربحية مقرها واشنطن، تعمل على تعزيز الديمقراطية بعموم أنحاء العالم، “عامان مرا منذ تحرير الموصل، وما نراه ليس سوى زيادة في التشاؤم” مستشهدة باستطلاعات أجريت العام 2017، التي حسب قولها “إشارة إنذار”.
بالعودة الى الفترة بعد طرد داعش من المدينة، فإن ما نسبته 75 بالمئة من العراقيين في المناطق المحررة أيدوا بأن البلاد تسير بالاتجاه الصحيح، وفقاً لاستطلاع المعهد، لكن هذه النسبة انخفضت بحلول نيسان من العام الماضي الى 50 بالمئة فقط، لتصل الى 24 بالمئة بشهر تشرين الأول. “لماذا يحصل كل هذا؟ لأن المكاسب العسكرية لم تقابلها إصلاحات سياسية واخرى اقتصادية وتقديم الخدمات وخلق لفرص العمل”، تتساءل السيدة هانسن لدى حضورها نقاش المائدة المستديرة الذي عقد على هامش أعمال منتدى السليمانية الذي أقيم هناك مؤخراً، وهو مؤتمر سنوي للأمن الاقليمي تنظمه الجامعة الاميركية بالسليمانية، وتقول: “وبهزيمة داعش، بدأ الناس بالتفكير بقضاياهم اليومية، ووجدوا بأن حياتهم، على الرغم من أن توقعاتهم التي كانت عالية، لم تشهد تغييراً حتى مع عدم وجود
داعش”.
بوكا
على الطاولة المستديرة، أشار علي البارودي، المصور والناشط والبروفيسور السابق بجامعة الموصل، الى معضلة أخرى قد تكون أعمق ولها آثار طويلة الأمد، الا وهي وجود ما لا يقل عن مئة ألف عراقي من الذين تورطوا مع التنظيم، محتجزين في مخيمات بعيدة، من بين قرابة مليوني عراقي آخرين نزحوا بسبب الحرب، وفقاً للاحصائيات الأممية. يتساءل البارودي: “هل تعلمون بأن “دولة الخلافة الأولى” التي سبق وأن تأسست في العراق، كانت من سجن بوكا”، كاشارة منها الى معسكر الاعتقال التابع للجيش الأميركي جنوبي العراق.
ففي منتصف العقد الأول من القرن الحالي، اجتمع، هناك، نزلاء السجن من أفراد التنظيم مع البعثيين السابقين، فتبادلوا الايديولوجيات وشكلوا نواة داعش. “اليوم، يتكرر حدوث ذات الشيء مع نزلاء المعسكرات الواقعة في محافظتي صلاح الدين ونينوى” يقول البارودي مضيفاً “فإن كنتم لا ترغبون بأن يحدث نفس الفراغ مرة أخرى، ولا تقع إبادة جماعية أخرى للإيزيديين، ولا تعلق أسماء آلاف الاشخاص على جدران المشرحة.. فعليكم بذل المزيد على أرض الواقع، من أجل أهلها”.
تشير تقديرات الأمم المتحدة، الى أن في ذروة إحكام التنظيم سيطرته على ثلث مساحة البلاد، نزح نحو ستة ملايين عراقي، اي ما يعادل نسبته 15 بالمئة من مجموع السكان.
يقول برادلي ميليكر، منسق وحدة عودة اللاجئين في شمال العراق لدى منظمة الهجرة الدولية التابعة للأمم المتحدة، بأنه، لحد الآن، عاد أكثر من أربعة ملايين نازح الى مناطقهم، بالرغم من مواجهة نحو مليونين ونصف مليون شخص لصعوبات العودة.
متحدثاً لدى حضوره منتدى السليمانية، قال ميليكر ان من بين ما يقرب من المليوني نازح عراقي، لا يزال هناك 600 ألف شخص يعيشون داخل المخيمات و600 ألف آخرون وسط منازل مدمرة بالكامل وأن الغالبية العظمى منهم يواجهون قضايا تتعلق بالتماسك
الاجتماعي.
قيادة وخطة وأولويات
“ان الحسم لتحسين الديناميكية يأتي من الحكومة المركزية، والتي لم تقدم، لغاية اليوم، خطة ستراتيجية سواء للموصل أو غيرها من المناطق المحررة” يقول رامون بليكوا، سفير الاتحاد الأوروبي لدى العراق، مشيراً الى “بطء الدول المانحة في استجابتها، ومع ذلك، فان للاتحاد مشاريع وخططاً جاهزة لإعادة إعمار الموصل، وما عداها، والتي تتضمن خلق فرص عمل واعادة البناء والحوار السياسي” يقول بليكوا مضيفاً “لكننا نحتاج بأن تتولى الحكومة القيادة من خلال خطة عمل مناسبة بأولويات
واضحة”.
يشير بليكوا الى ان القيمة الرمزية للموصل لم يتم تسليط الضوء عليها بمايكفي، وان مسألة اعادة الاعمار واحياء المدينة من جديد افتقرتا الى الاصرار والتأكيد عليها من قبل الحكومة ما ولد شعوراً بالاحباط لدى الأهالي الذين لم يعد بامكانهم الانتظار أكثر، فهم بحاجة لأن يشاهدوا قصص نجاح حقيقية تحدث على أرض الواقع، يحدوهم الأمل بأن الأمور تسير باتجاه التغيير”.