الطفولة العربية والمستقبل

اسرة ومجتمع 2019/04/05
...

سارة السهيل
كل الامم والشعوب تزرع أولى أشجار نهضتها او قامة حضارتها المستقبلية انطلاقا من رعاية الطفل عقليا وفكريا وثقافيا، فطفل اليوم هو المستقبل.
ومن خلال انغماسي في شؤون الطفل سواء بالكتابة له او عنه وجدت ملاحظات كثيرة بإمكاننا إنجازها او تجنبها من خلال ما يصدر للطفل من وسائل ترفيه وتعليم عبر وسائل الاتصال ، وليس فقط الاعلام المرئي والمسموع والمقروء.
ففي ظل سيطرة وسائل التواصل الاجتماعي واقتحامها عالم الطفولة اصبح هناك العديد من التحديات الجسيمة التي تواجه المتخصصين في عالم الطفولة والمهتمين بتنشئة الطفل بعقل وقلب سليم ونفسية صحية.
لو أردنا ذكر اهم الأشكال الفنية الموجهة للطفل وليس حصرا الرسوم المتحركة، الأغاني، قصص الاطفال التي تشمل القصص الحديثة او التاريخية او التراثية، وكذلك قصص الخيال العلمي، او التي تحتوي على حكم وأمثال شعبية ونكت ؛ كلها تحتاج الى اعادة النظر بمحتواها ومدى تأثيرها سلبا وايجابا في تكوين شخصية الطفل.
كما تشكل افكار الطفل وثقافته معطيات كثيرة منها الألعاب الالكترونية، والبرامج مثل التوك شو ، والبرامج التعليمية والتثقيفية مثل افتح يا سمسم او المناهل في السنوات الماضية، والقنوات الفضائية المتخصصة التي تبث طوال اليوم برامج متنوعة للطفل، والمواقع الالكترونية الموجهة للطفل، مجلات الاطفال، كتب الكوميكس.
فهذه المعطيات على كثرة تنوعها وأسالبيها في جذب الطفل اليها تشكل خياله وفضاءه ورؤيته للعالم سلبيا او ايجابيا، وان كانت المناهج التعليمية من اكثر الوسائل تأثيرا على الطفل باعتبارها الاوسع انتشارا وصولا للطفل عن طريق المؤسسة التعليمية التي من المفترض انها اجبارية وبالتالي تصل لكل بيت.
لا ننسى، في هذا السياق، الاطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة وما يقدم لهم عبر هذه الوسائل ومناقشة الكم والكيف المطلوب للنهوض بحالته الصحية والنفسية عن طريق ما يقدم له بمراعاة ظروفه وقدراته وتنميتها وتطويرها.
 
حشو وغياب الكيف
ومن خلال مراقبتي لكل ما سبق وجدت تأخرا ملحوظا بالنوع والكم المقدم للطفل العربي، مقارنة بدول العالم. فالمواد المقدمة للطفل العربي تعاني ترهلا وحشوا غير مبرر بما يقدم للكبار من انتاج فائض بما لا يجدي نفعا و بما يضرالذوق العام ويتسبب في تدني الاخلاقيات والسلوك والآداب العامة.
وذكري لما يقدم للكبار في موضوع عن الطفل ليس اعتباطا، بل لان هذه البرامج اقتحمت عالم الطفولة واصبح الطفل من أوائل المتابعين لها، وربما يعود السبب الى ان الطفل لم يجد ما يجذبه وما يرضي فضوله وما يتناسب مع زمنه وتطوراته، فطفل اليوم اصبح مطلعا على كل شيء، و واعيا بكل ما يدور حوله فذهب الى ما يقدم للكبار وقفز عن الطفولة بشكل مخيف.
فمن الطبيعي ان يعيش الانسان مراحل عمره بترتيب يتناسب مع ما يمكن ان يحتمله الطفل من قدر العبء والمسؤولية التي تلقى عليه اذا اقتحم عالما ليس عالمه، وبالتالي إنقاذ الطفل من اقتحام عالم الكبار وإعادته للطفولة يجب ان تكون من أوائل الاهتمامات.
وقد يرتبط جنوح الاطفال لعالم الكبار بقلة عدد الكتاب والمؤلفين المهتمين بعالم الطفولة في عالمنا العربي، كما ان الاهتمام بكتاب الطفل ضعيف على الصعيد المادي والمعنوي والانتاجي فبالتالي هجر الكتاب الابداع للاطفال وانطلقوا لعالم الكبار كي يستطيعوا تأمين حياتهم اليومية وتحقيق نجاحاتهم.
والشق الثاني المرتبط بعدد الكتاب هو عدد الانتاج وهو مرتبط بعدد الكتاب ومرتبط بشركات الانتاج التي لا تسخى ابدا لاعمال الاطفال. ومن هنا وجب تدخل الانتاج المدعوم حكوميا حتى وان كان الانتاج موجها فلا ضرر ان كان التوجيه ثقافيا واخلاقيا وتربويا ووطنيا بعيدا عن السياسة الا في ما يخص التثقيف السياسي و ليس التوجيه.
كما يجب على المؤسسات الثقافية المختصة ان تدعم الانتاج للطفل لسد نقص شركات الانتاج الفنية الخاصة والتي لاتهتم الا بتحقيق الارباح المادية فقط، وقد يغري نجاح تجارب الانتاج الفنية الحكومية  الموجهة للطفل، شركات الانتاج الخاصة في تعديل موقفها  لتدخل معترك 
الانتاج الفني للاطفال.
 
العنف والجريمة
أي متابع للاعمال المقدمة للاطفال او التي يشاهدها الطفل في الاعمال المقدمة للكبار يجد واقعا مخيفا، قد تبدأ من سماع الأغاني الركيكة التي تستخف بعقلية الطفل واستخدام الألفاظ والعبارات التي لا ترتقي بالاخلاق والتحضر.
وعلى صعيد المشاهدة، فان المواد المعروضة على الطفل تحتوي مشاهد وافكارا تحرض على العنف وتحفز على الجريمة وارتكابها، ناهيك عن افكار شيطانية تعبر عن رفض الاخر وعدم قبوله. ويلاحظ ايضا التناقض الكبير بين افكار رفض الاخر في هذه الاعمال الفنية وبين تكريس الانفتاح على قيم اجتماعية لا تتناسب مع قيمنا الاخلاقية التي تقرها كل الديانات الموجودة على ارض بلاد العرب بمقاييس وسطية.
وكذلك التركيز على التراث في بعض المواد الفنية تسبب في وجود فجوة بين الماضي والحاضر لدى الطفل العربي فجعله حائرا ،هل هو ابن الماضي وكيف يمكن له الاندماج مع الحضارة والتمدن الذي يعيش ألفيته الثالثة؟.
فطفل اليوم يفتقد لقيم القدوة الصالحة، ولا يجد لها في لسان الحال واقعا في زمنه، وما يطرح من قيم القدوة الصالحة لا يراه الا في معطيات الماضي، ومن ثم فان مثل هذا الاعمال الفنية التي تقدم صورة المثال والقدوة الصالحة رغم أهميتها فانها تقدم رسالة للطفل بأن يبقى في جلباب التاريخ ومن ثم فانه يفقد الأمل في المستقبل.
واذا ما عرجنا على البرامج الدينية، فاننا نجد ان بعضها يحث على التعصب والعنف والتشدد، في الوقت الذي نحتاج فيه تماسكا مجتمعيا تجمعه الوطنية والهوية والمواطنة بعيدا عن ثقافة الكره والعداء والتكفير، حتى نستطيع العيش في سلام ونحفظ حريات الاخرين.
فثقافة العنف التي يتعرض لها الطفل العربي تدخل في كل شيء يعيشه اليوم بما فيها الألعاب الالكترونية التي باتت أضرارها تكشف رويدا رويدا بدءا من اهدارها للوقت مرورا بادمانها وتحريضها على اكتساب العنف وممارسته وصولا للقتل.
وفي تقديري، فان الاعلام الذي يخاطب الطفل لا بد وان يقوم برسالته كاملة في الارتقاء به من حيث الخيال والجمال والابداع وخلق روح المرح بداخله وتنمية الفكر والمواهب وتكريس قيم المواطنة والانتماء والحث على اكتساب المعرفة والتزود بالعلوم والاداب العامة كما انه مطالب بغرس قيم الضمير لدى الناشئة لكي يفرقوا بين الخير والشر مع التوسع في البرامج التي تمني القدرات العقلية وتنشط الذكاء والعقل 
والذاكرة.