الـيـتـيـم

اسرة ومجتمع 2023/01/02
...

  عواطف مدلول 


رغم أنه كان الابن البكر لأسرته لكنه لم يحظَ بدلال والديه مثل اخيه الذي ولد بعده بعام، ولا حتى يثير انتباههم واهتمامهم بالشكل الذي يجعله متميزا، أوعلى الأقل متساويا مع شقيقه الأصغر منه، وذلك ما خلق لديه مشاعر خوف عميقة ممزوجة بكثير من الألم، شكّلت عائقا كبيرا في أولى محطات حياته المهمة اثناء انتقاله إلى عالم جديد بالمدرسة، والتي أصبحت مصدرا اخر للقلق، لا سيما أنه دخلها متأخرا بعد سنة كاملة من استحقاقه الالتحاق بها، حيث قرر والداه أن ينتظر أخاه الأصغر منه حتى بلوغه السن السادسة، ليكونا معا في المرحلة الدراسية نفسها.

وبالنتيجة غادرها باكرا بعد أن تعرض لشتى أنواع الإهانات والتعنيف اللفظي والجسدي، بالصراخ والضرب المبرح مع استعمال الآلات الحادة أحيانا والكلمات المرعبة، التي تذكره دوما بأنه فاشل وكسول ولن ينجح أبدا في حياته،، ولم تفلح كل القسوة، التي تتبعها والدته معه في أن تجعله يحب مرافقة اخيه لحضور الدوام، خصوصا أنه صار ينقل تحركاته وسلوكه ويزعجه كثيرا بالسخرية منه، والكذب ببعض المواقف التي تحصل له أثناء تواجده مع بقية التلاميذ والمعلمين، محاولا التقليل منه وإحراجه أمام الأسرة.

وبالتالي فإن كل زملائه تفوقوا عليه وعبروا مراحل متقدمة بالدراسة، إلا هو ظل عالقا بالمراحل الأولى لأن عقله لا يستوعب المواد الدراسية، فشرود الذهن وعدم التركيز جعلاه كثير الصمت والنسيان، وبالنهاية خضع لتهديدات والده، الذي كان يتوعده دوما بزجه بالعمل بأسوأ المهن، عقابا على تأخره بالتعليم ورسوبه لعدة سنوات، فبات يتنقل مستسلما مسلوب القرار والارادة بين عملٍ وآخر، مهما تكن أجوره، حتى يكسب رضا وود الجميع ويساعد بمصروف البيت، كما صار لزاما عليه دفع نفقات دراسة أخيه، الذي تمَّ قبوله بإحدى المدارس الأهلية.

 مسؤولية أكبر من عمره وطاقته تفرض عليه تحمل كل المنغصات والصعوبات، وجميع الظروف، التي تواجهه في العمل كي لا يتهم بالتقصير، أثقلت كاهله وحرمته من أبسط حقوقه في أن يعيش طفولته الطبيعية، بل سلبت جزءا كبيرا من كرامته، وتسببت في إحداث أضرار وضغوط نفسية له، لا يستطيع أن يبوح بها أو يعلن عنها، لكنّها تظهر واضحة جدا بملامح الحزن، التي ترسم عينيه وترهقها جرّاء التفكير الزائد والقهر. 

فهو لم يشبع من حنان ومحبة والديه، وبقيَّ متعطشاً دائماً لأحضانهما يفتقد لدفئهما وأمانهما، لذا يحرص في كل مناسبة أن يختار أجمل الهدايا لهما، كي يلغي المسافات بينه وبينهما، ويشعر ببعض الطمأنينة تحت ظلهما، لكن ذلك لم يحصل حتى أنهما في السنوات الاخيرة تعمدا إهمال الاحتفال بعيد ميلاده، وما كان منه بعد اقترابه من سن الرشد، إلا أن يوقف معاناته ويتقبل أن يعيش على الهامش، تاركا عاطفته التي تؤذيه جانبا، لكنه كان في كل مرة يسأل عن أمنيته، يكتفي بالرد بابتسامة خفيفة، مجيبا بسره (تمنيت لو ولدت يتيما)، لربما كان وضعي أفضل مما هو عليه الآن.