حصن الأخيضر في المراسلات الشخصيَّة لصانعة الملوك {مس بيل}

ريبورتاج 2023/01/08
...

   مصطفى الحسيني

تعددت وتنوعت المصادر التاريخية، التي تناولت المعالم الأثرية في مدينة كربلاء المقدسة والعراق عموماً إلى ما لا يمكن حصره، أو إحصاؤه في موضوع صحفي، بل في كتب ومخطوطات نظراً لكثرة هذه المصادر واختلاف الآراء المطروحة فيها وتوجّهات مؤلفيها، إلا أننا سنتطرق هنا تحديداً إلى أحد أبرز معالم مدينة سيد الشهداء "ع" الحضارية والإنسانية، لما له من أهمية في تشكيل السياق التاريخي للعراق من جهة، وبسبب الاهتمام البالغ الذي حظي به، من قبل عالمة الآثار والمؤرخة السياسية البريطانية الشهيرة "غـيـرتــرود بـيــل" من جهة أخرى.

تفاصيل مهمة

تبرز أهمية تسليط الضوء على التفاصيل الدقيقة  الزمانية والمكانية لبعض الأجزاء من حصن أو ما يعرف  "بقـصــر الأخـيـضــر" كما يحلو للبعض تسميته، من وجهـة نظـر "صـانـعــة الـمـلـــوك" شخصيـاً، بسبب أن الأخيرة كانت قد اطلعت على هذه التفاصيل بالمعاينة المباشرة وبأسلوب المعايشة الطويلة، بالتعاون مع القبائل والأدلاء المحليين القاطنين في تلك المنطقة، واعتماداً على أحدث ما توصل إليه علم الآثار في تلك الفترة، فضلاً عن كون الـ "مس بيل" هي المرأة الوحيدة الممثلة لحكومة الإمبراطورية البريطانية في كامل منطقة الشرق الأوسط، آنذاك ومدعومة بالكامل من قبلها، ناهيك عن تفانيها وشغفها العاليين بالتاريخ والتراث الإنساني وخصوصاً العربي منه، ما جعل منها أول امرأة في العالم تتخرج في جامعة "أوكـسـفــورد" باختصاص التاريخ عام 1888م.


الخاتون

تم جمع رسائل ومذكرات "مس بيل" الملقبة بـ "الخاتون" في البلاط الملكي العراقي حينها والذي يعني بالعربية "الـسـيــدة الـمـحـتـرمــة"، في كتاب صدر للمرة الأولى عام 2016 م للباحثة والأكاديمية في اختصاص فـن وآثـار الشـرق الأدنـى بجامعـة كـولـومـبـيــا البريطانيـة، د. لـيــزا كـوبــر، بعنوان "الـبـحـــث عـن الـمـلـــوك والـغـــزاة – غـيـرتـــرود بـيـــل وعـلــم الآثـــار فـي الـشــرق الأوســط"، إذ تنقل مؤلفة الكتاب عن "بـيــل" ملاحظاتها عن حصن "الأخـيـضــر" لدى رؤيتها له للمرة الأولى أثناء قدومها إليه من جهة الشمال الشرقي، وتحديداً من منطقة "شـثـاثــة"، والتقاطها لإحدى أوائل الصور الفوتوغرافية لهذا المعلم الأثري على الإطلاق، قائلةً إنه: "من بين جميع التجارب المذهلة التي صادفتها في طريقي، فإن نظرتي الأولى لقصر الأخيضر هي أشد ما يعلق في الذهن، إذ أُطلقت جدرانه الجبارة من الرمال، من دون أن يمسها الزمن تقريباً، محطمةً بذلك الصفوف الطويلة من النفايات بأبراجه الضخمة، صامدةً وشامخة، وكأنها كما اعتقدت في البداية من عمل الطبيعة، لا من عمل البشر".

ويذكر الكتاب نقلاً عن مذكرات الـ "مس بيل" بيانها أنها وقُبيل دخولها الأخيضر، وجدت أن القصر كان مأهولاً بمجموعة من العرب القادمين من منطقة "نجد"، والذين كانوا منزعجين من السياسات المتبّعة في تلك المنطقة، والراغبين في السعي إلى تجارة أكثر نفعاً في الجمال والخيل داخل بلاد الرافدين الخاضعة للنفوذ العثماني، مضيفةً أن "أولئك العرب كانوا يستخدمون (الأخيضر) كقاعدة لهم، إذ استقرت أسرهم ضمن العديد من الغرف المنتشرة في أرجائه، متيقنين بأن جدران هذا القصر هي أكثر من كافية كـ (مأوى) بالنسبة لهم ولاحتياجاتهم".


جودة المكان

ومما ذكرته "مس بيل" في مذكراتها أنها "لم تنزعج من سكن هذه المجموعات في القصر، بل إن أفرادها بحسب خيالها الاستشراقي  قد عززوا في الواقع من الجودة الرومانسية للمكان، وأعادوا طابعه القديم إلى الحياة"، واصفةً شيخ منطقة الجوف المدعو "علي"، بأنه "مخلوق رائع بشعر أسود يتساقط في ضفائرٍ على جانبي وجهه لدى مروره مع إخوته كالأشباح على طول الممرات، مخلفين أرديتهم البيضاء أسفل السلالم".

في أكثر صورها غنائيةً، تصف "بيل" أحد مشاهد رجال القبائل العرب المجتمعين حول موقدهم وسط القاعة الكبرى للقصر خلال فترات المساء من أيام عملها هناك، بأنهم "كانوا يقضون الساعات في سرد الحكايات والأغاني بلهجة (نـجــد) البليغة، بينما أنار لهم ظلمة المكان، زوجٌ من فتيل الزيت الموضوعتان في ثقوب فوق الأعمدة، كان قد صنعها لهم رفاق السلاح سابقاً، بينما يغني أحدهم، الذي كان يعزف على الربابة البدوية ذات الوتر الواحد، عن ملك عظيم وقوي راعٍ للشعراء وقائد للغارات، لكنه حوصر وقتل في ساحة المعركة مؤخراً"، لتنشد الضيفة البريطانية بدورها  مسحورةً بالمشهد من حولها مقطعاً شعرياً بخصوص الأخيضر، وهو اقتباس من الشاعر "لبيد بن ربيعة"، الذي كان بمثابة قول مأثور لكل عروش الممالك:

بلينا وما تبلى النجومُ الطَّوالِعُ    

  وتَبْقَى الجِبالُ بَعْدَنَا والمَصانِعُ


إمبراطوريَّة المناذرة

توضح رسائل ومذكرات "مس بيل"، التي تسجل انطباعاتها الأولى عن قصر الأخيضر، أنها اعتقدت في البداية أن القصر هو عبارة عن مبنى "لـخـمـي" لإمبراطورية المناذرة من القرن السادس الميلادي، أي هو معاصر لمدن "بني لخم" المعروفة بكونها متناثرة فوق صحراء بلاد ما بين النهرين إلى الغرب من نهر الفرات.

إن هذه المؤرخة والباحثة البريطانية كانت قد أوردت خلال عملها في دراسة حصن "الأخيضر" الأثري، تحليلات معمارية غزيرة ودقيقة عن جميع أجزائه، وهذه التحليلات المعمارية، قد أسفرت عن اقتراحها للتاريخ الدقيق لبناء الموقع، إذ تؤكد "د. كـوبـر" عبر أحد فصول كتابها، أن "نتائج التحليلات اعتمدت بشكل أساسي على العديد من السمات المعمارية المميزة، التي تضمنت قبو القصر، وطريقة بناء وتوظيف المساحات المقببة، وكيفية استخدام أنابيب البناء، ووجود المسجد".

تم تسليط الأضواء على هذه السمات للمرة الأولى عبر مقال أكاديمي نشرته "بـيــل" شخصياً عام 1910م، تحت عنوان "نظام التقبيب في الأخيضر"، في "مجلة الدراسات الهيلينية - اليونانية حالياً-"، وشكّل هذا المقال، الملامح العامة لمزيد من التحقيقات حول الأخيضر التي جرت بعد الزيارة الثانية للمس "بـيــل" إلى بـلاد مـا بـيـن الـنـهـريــن في الأشهر الأولى من عام 1911م، التي تضمنت توقفاً قصيراً في الأخيضر، مكثت فيه ثلاثة أيام من أجل أخذ قياسات والتقاط صور إضافية، إذ تم دمج ملاحظاتها السابقة وتوسيعها قبل نشرها في إصدارها الأخير عن القصر عام 1914م.


لورنس العرب

وتشير مذكرات الباحثة الملقبة أيضاً بـ "النسخة الأنثوية من لورنس العرب"، إلى أنه وبحلول ذلك الوقت، كان عرب الجوف قد غادروا موقع الحصن، وحل محلهم "الزكَاريط" - وهم عشيرة فرعية من قبيلة شمر، الذين نصبوا خيامهم في مكان قريب وخلال النهار، وعندما تكون "بيل" في خضم العمل على قياساتها، كان أفراد هذه العشيرة يتواجدون في القصر، جالسين في دائرة حول خيام البعثة الخاصة بـ "بيل" في الفناء الداخلي، منهمكين بخياطة ملابس جديدة ومراقبين للتقدم الذي تحرزه في العمل.

ومما جاء في كتاب "د. كـوبــر" عن ظروف عمل الـ "مـس بـيــل"، أنها كانت تمتلك طاولة تخطيط هندسي في هذه الرحلة، لأنها ذكرت استخدامها لها في وضع خطة للحصن، وللمساعدة في أخذ الارتفاعات، وهي مهمة استهلكت الكثير من وقتها، ومع ذلك وحتى في ظل هذا الجهد، ظلّت راضيةً عن خطتها السابقة لعام 1909م، التي وصفتها بأنها "دقيقة بشكل رائع" مع امتلاكها خطأ أو اثنين فقط، وفي ما يخص التصوير الفوتوغرافي، فقد التقطت "بيل" صوراً عديدة للميزات المعمارية التي فاتتها في عام 1909 م، واستخدمت العدسات المقرّبة للحصول على تفاصيل إضافية بمديات أقرب.


بحث ودراسة

وبالنظر إلى الهوية المفترضة للقصر واعتقاد الـ "مـس بـيــل" أنه لم يخطط أحد لمثل هذا المكان من قبل، فقد كان من المثير بالنسبة لها البحث في صرح لم تتم دراسة ونشر أي شيء عنه بشكل صحيح، ولهذا فقد سعت إلى التخطيط بعناية للهيكل بأكمله وتصوير عناصره المختلفة، بهدف إنجاز وصف كامل وقابل للنشر عند عودتها إلى إنـكـلـتــرا.

كان مخطط "بـيــل" بالنسبة للأخيضر ابتدائياً ولكنه شامل، وكان لدى رفيقها في السفر "بي تي. واتس"، أدواته الخاصة بالمسح، بما فيها جهاز قياس الزوايا، إذ زوّدها بقياسات للأطوال الخارجية والداخلية الطويلة لتحصينات الأخيضر والقصر الموجود بداخلها، بينما تم إجراء جميع القياسات الأخرى في الأخيضر بواسطة "بيل" نفسها باستخدام شريط قياس ومسطرة يدوية، في حين تم تمييز قياسات بيل بحسب السياقات العلمية في عدة صفحات من دفتر ملاحظات ميداني، قدّمت عبر صفحاته خرائط تخطيطية لمختلف قطاعات البناء وخصائص كل منها.

ومما لا شك فيه، أن التحديات المرافقة لعملية التخطيط لمثل هذا الصرح الضخم والمعقد، كانت هائلة، لكن "بـيــل" كانت مصممة على الحصول على سجل كامل ودقيق لـلـقـصـر، إذ قضت يومين كاملين في أخذ قياسات جدران وأبراج، وبوابات الأخيضر، مستعينةً بما كانت تتلقاه من مساعدة الرجال المرافقين لها كالتناوب على تثبيت شريط القياس وحمل آلة التصوير الخاصة بها، وهو ما أشارت إليه شخصياً بالقول إنهم "في يوم واحد تعلموا بالضبط ما أريده، وهم مفيدون للغاية بالنسبة لي، لأنني ببساطة يجب أن أمشي وراءهم مع دفتر التخطيط الخاص بي ثم تدوين الأشكال المستقاة من الشريط".


إنجاز المهمة

وبمجرد إكمال قياساتها، قامت "بـيــل" برسم الطابق الأرضي للمجمع بأكمله، مستلقيةً على أرضية إحدى الغرف المظللة والباردة ضمن اسطبل القصر، حيث كانت خيامها الخاصة مترّبة للغاية، ما يستثنيها من الاستخدام لمثل هذا العمل الدقيق.

كما قامت "بـيــل" أيضاً بقياس الطابقين العلويين من الحصن في اليوم السابق لمغادرتها، وفي المجمل، فقد أنجزت المهمة بأكملها مع بعض الفخر، وكان المخطط الناجم عن عمل الأيام الماضية، هو ما أعيد إنتاجه في أول اثنين من منشورات "بيل" الخاصة بوصف اكتشافاتها في قصر الأخيضر، التي نشرتها في عامي 1910 و1911م على التوالي.

ومما جاء أيضاً في كتاب "الـبـحـث عـن الـمـلـوك والـغــزاة"، أن "البحوث اللاحقة التي أجرتها (بـيــل)، كانت قد سعت إلى وضع الأخيضر مؤقتاً ضمن ما وصفتها بـ (التقاليد الأوسع للمباني الفخمة في الشرق الأدنى)، واستدعت عناصر مماثلة من بلاد ما بين النهرين وما وراءها من أجل إكمال هذا المسعى".