{عين غطى وعين فراش}.. البصرة تفتح ذراعيها للعالم

ريبورتاج 2023/01/09
...

   صفاء ذياب

   تصوير: خضير العتابي

 ذكر البلاذري في فتوح البلدان قدم الأحنف بن قيس على عمر في أهل البصرة، فجعل يسألهم رجلا تلو الاخر والأحنف في ناحية البيت" في بتٍ لا يتكلم، فقال له عمر: "أما لك حاجة؟ " قال:

"بلى يا أمير المؤمنين إن مفاتيح الخير بيد الله، إن إخواننا من أهل الأمصار نزلوا منازل الأمم الخالية بين المياه العذبة والجنان الملتفة، وإنا نزلنا سبخة بشاشة لا يجف نداها ولا ينبت مرعاها، ناحيتها من قبل المشرق البحر الأجاج، ومن قبل المغرب الفلاة، فليس لنا زرع ولا ضرع، يأتينا منافعنا وميرتنا في مثل مريء النعامة، يخرج الرجل الضعيف فيستعذب الماء من فرسخين, وتخرج المرأة لذلك فتربق ولدها كما تربق العنز يخاف بادرة العدو وأكل السبع، فإلا ترفع خسيستنا وتجبر فاقتنا نكن كقوم هلكوا". فألحق عمر ذراري أهل البصرة في العطاء, وكتب إلى أبي موسى يأمره أن يحتفر لهم نهراً.

هذا ما كان بعد تأسيس المصرين؛ البصرة والكوفة، في العام 14هـ، فالبصرة خامة نقيّة، فُصّلت لتكون حضارة لوحدها، فلم تكن أرضاً صالحةً للحياة، فماؤها مالح، وأرضها مترامية بين البحر والصحراء، لكنَّ الحاجة لوجودها جعلها بعد سنوات قليلة قبلةً للخلافة، تسعى أطراف كثيرة للاستيلاء عليها، لما بها من خيرات لا تُعدُّ، ولما لتربتها من رحم للحياة القادمة، التي أرّخت لحضارة عُدّت على مدى عصور متتالية من أهم الأراضي التي يمكن أن تُقام عليها عصورٌ ذهبية، وهو ما حدث منذ تأسيسها وحتى سقوط الحضارة الإسلامية على يد المغول.

فالحميري، في معجم البلدان، يشير إلى أن من أسس قيام حضارة البصرة ودولتها ثلاثة أشياء: "ولأهل البصرة ثلاثة أشياء ليس لأحد من أهل البلدان أن يدّعيها ولا يشركهم فيها، وهي: النخل والشاء والحَمَام الهدي، أمّا النخل: فهم أعلم قوم بها وأحذقهم بغراستها وتربيتها وإصلاحها وإصلاح عللها وأدوائها وأعرفهم بأحوالها من حين تغرس إلى حين تكمل وتستوي وأبصرهم بالتمر وخرصه وتمييزه وحزره وخزنه، وهي تجارتهم العظمى وعدّتهم الكبرى، وفي البصرة من أصناف النخيل ما ليس في بلد من بلاد الدنيا. وأمّا الشاء فانّهم اصطفّوا منها العبدية المنسوبة إلى عبد القيس.. وأمَّا الحمام فالأمر بالبصرة جل فيه وتجاوز الحد وبلغت الحمام عندهم في الهدي أن جاءت من أقاصي بلاد الروم ومن مصر إلى البصرة وتنافسوا في اقتنائها ولهجوا بها حتى بلغ ثمن الطائر منها سبعمئة دينار".

 

جنّة عدن

على الرغم من أن تمصير البصرة لم يكن إلّا في العام 14هـ، غير أن لهذا الأرض تاريخاً يمتدُّ منذ بداية الإنسانية، فبحسب بعض المصادر، يعود تاريخ مدينة البصرة إلى ما قبل العصور التاريخية، إذ يعتقد الكثير من الباحثين على أنَّ جنّات عدن التي نزل فيها آدم أبو البشر تقع إلى الشمال من مركز المدينة بالتحديد منطقة القرنة، التي تحتوي على شجرة آدم حسب الاعتقاد السائد هناك. وقد بنيت البصرة على أنقاض معسكر للفرس في منطقة كانت تدعى الخريبة. كما أنَّ هنالك مدينة أثرية يعتقد بعض المؤرخين أنّه تمَّ بناؤها في زمن نبوخذ نصّر تدعى طريدون، وادّعى آخرون أنَّها كانت مدينة آشورية، حيث كان لهذه المدينة سدٌّ يحميها من ارتفاع منسوب مياه البحر، فإن صح هذا فانَّ طريدون أو تريدون تكون جنوب مدينة الزبير قرب خور الزبير في الوقت الحاضر، بينما يعتقد الرحّالة جسّني أنَّ موقع طريدون قرب جبل سنام الذي يبعد عن جنوب مدينة الزبير بحوالي ثلاثة عشر ميلاً، فإذا كان ذلك صحيحاً فيجب أن يكون خور الزبير، الذي هو امتداد الخليج العربي يمتدُّ إلى جبل سنام أيام الدولة البابلية.

وبحسب الباحث هاني نمر عجمي، فالبصرةُ كانت إحدى مُدن جَنوب العراق التي سَكنها الكلدانيّونَ، وقد أَطلقوا عليها اسمَ تَدمُر، أو تردم، أو تردن، وحُوِّرَ هذا الاسم إلى تَرَدُون، أو تَريدون في زمن الإغريق بعد غزوِ الإسكندر المَقدونيّ، وحين وقعَتْ جميعُ المُدن العراقيّة تَحت قَبضة الفُرس في عَهد المَلك كُورش سنة 538 ق.م، سُمّيت البصرة "دهشتا باد أردشير"، وممّا يُؤكّد ذلك، المُخلّفات الأثريّة التي عُثِر عليها في البصرة، التي تَعودُ إلى العهد الكلدانيّ والفارسيّ، فقد عُثر في جبل سنام- جنوب غرب البصرة- على يواقيتَ صغيرةٍ، عليها نُقوشٌ كلدانيّةٌ وفارسيّةٌ، وعليه فإنّ مدينةَ البصرة كانت تتمتّع بدورٍ مُهمٍّ في حياةِ شِبه الجزيرةِ العربيّةِ قبل الإسلام، وإنّ ساكنيها كانُوا على قَدرٍ عالٍ مِن الثقافة والتحضّر.

 

امتداد التاريخ

وعلى الرغم من هذا التاريخ الطويل، غير أن هذه الأرض التي سُميّت في ما بعد بالبصرة، لم تبدأ حضارتها الفعليّة إلا مع الفتح الإسلامي، إذ بدأ التجّار والعلماء والباحثون عن المعرفة والاستقرار من أنحاء الخلافة الإسلامية كلّها بالإقبال على هذه المدينة، حتّى بدأت بالازدهار بعد أن اختفت الثكنات العسكرية لجيش الخلافة، وتحوّلت شيئاً فشيئاً لمدينة حضرية، لترى عصور زهوها في أواخر العصر الأموي، والعصر العبّاسي، فبعد انقضاء عهد الفتن فيها واستقرار الأمر فيها، انصرف أهلها لشؤونهم فعكفوا على الزراعة والتجارة, وانتعشوا واستفاض لهم زرع ونخيل وتجارات، لتعدّ البصرة حينها من أكبر ثغور الإسلام قاطبة، وقد حفرت فيها أقنية وجداول كثيرة تتشعّب عن النهر الأعظم، ووصف الأقدمون، فجاء في مسالك الممالك للإصطخري:

"البصرة مدينة عظيمة لم تكن في أيام العجم، وإنَّما اختطّها المسلمون أيّام عمر، ومصّرها عتبة بن غزوان وهي خطط وقبائل كلّها. ويحيط بغربيّها البادية، وليس فيها إلَّا أنهار. وذكر بعض أهل الأخبار أنَّ أنهار البصرة عدّت أيام بلال بن أبي بردة فزادت على "120000" نهر تجري فيها الزوارق. وقد كنت أنكر ما ذكر من عدد هذه الأنهار في أيّام بلال, حتى رأيت كثيرًا من تلك البقاع، فربَّما رأيت في مقدار رمية سهم عدداً من الأنهار صغاراً تجري في كلّها زواريق صغار، ولكلِّ نهر اسم ينسب إلى صاحبه الذي احتفره أو إلى الناحية التي يصب فيها وأشباه ذلك من الأسامي، فجوزت أن يكون ذلك في طول هذه المسافة وعرضها. وأكثر أبنيتها بالآجر".

هذه الأنهار التي كانت موجودة حتّى وقت قريب، ومن ثمَّ مع التوسّع العمراني، بدأت السلطة بطمرها واحداً بعد الآخر، ليفسحوا الأراضي للبيوت التي غزت البصرة، بعد إقبال الناس على السكن فيها. فلم تعد البصرة ثكنةً عسكرية كما أراد لها عمر بن الخطّاب، ولم تبق مجرّد أرض لزراعة النخيل وبيع تمورها الأجود في المنطقة، لكنّها بدأت تأخذ أشكالاً مختلفة، على رأسها المدارس والمساجد ودور العلم التي خرّجت آلاف العلماء العرب والمسلمين، حتى أسماها البعض (بيت العلم)، فخرج منها الفراهيدي وأبو الأسود الدؤلي والجاحظ وعبد الله بن المقفّع ويحيى بن يعمر العدواني وعبد الله المرقال وأبو الحسن المدائني والحسن بن الهيثم.

أما في مجال الشعر، فلا يخفى علينا بشار بن برد وأبو نواس وأبو العيناء البصري وأبان الرقّاشي ومحمد الأزدي، وآلاف الشعراء الذين مرّوا على مدينة البصرة، وصولاً إلى مؤسس الحداثة الشعرية العربية بدر شاكر السيّاب وسعدي يوسف وطالب عبد العزيز وغيرهم المئات حاضراً.

 

البصرة باب الكرم

لم تفتح أيّة مدينة ذراعيها للقادمين مثلما تفعل البصرة على طول تاريخها، فعلى الرغم من الحروب والفتن والمعارك التي دارت على أرضها، بقيت البصرة في عيون الغرباء بيتا من لا بيت له، حتى عُرف بطيبتها، وما زالت كلمة (حبّوبي) التي تزيّن شفاه أهلها ماثلةً حتى الآن.

فيرى الباحث الدكتور محمد عطوان في دراسة له عن طيبة البصرة: يعزو البعضُ من العراقيين الطيبةَ لدى البَصريين إلى علاقتهم الجغرافية بالبحر، وإلى أبوابهم المُشرعة على الغريب؛ فما يُقال عنهم: إنّهم طيّبون برغم اصطخاب البحر، ومتصالحون برغم تشويش الغريب لصورة ذاتهم، وتهديده لسُلطة عقلهم! فيكرمون الغريب والوافد، ويحترمون النزيل والكائن عندهم، ويُنمّون القابلية لقبوله برغم قتامته وضبابيته؛ حتّى أنَّهم يُبدون رغبة شديدةً في التودّد والاحتضان والتهليل والترحاب به... يفعلون ذلك لا لشيء سوى لجبلتهم الميّالة للالتقاء والحوار والإثرة، ولقدرتهم على تطبيع المُتعارضات وتحويلها إلى عناصر مُتوافقة ومُتراضية. هذه الأمور أكسبتهم خصائصَ ما هو فريد حَملها الوصف السائد عنهم، ليُظهر فيهم ما يحوزونه من الصِفات المُستَحسَنة للتعامل مع الغير. فكما يُقال عنهم: إنَّهم بخلاف غيرهم من جماعات المُدن المُقفلة، أو تلك المنتظمة بنسيجٍ اجتماعي أحادي يَبزّون الغريب بمَلَكةِ اظهار الصِفات الاجتماعية والثقافية الحَسِنة!.

هذه الطيبة التي جُبل عليها أهلها، أعادت البصرة إلى تاريخها الجميل، لاسيّما أن الحروب الطويلة منذ العام 1980 وحتى الآن منعتها من إقامة أيّة فعّالية كبيرة بسبب مخاوف العرب من القدوم إليها، إلا فرادى على مستوى مهرجان ثقافي أو فعّالية صغيرة يحضرها أعداد قليلة. غير أن ما حدث من انقلاب في البصرة بسبب أحداث خليجي 25، غيّر مفهوم الحرب وما طرأ على هذه المدينة، فلم تعد البصرة مدينة الماء المالح، وليست أرضاً محروقة بسبب حروب لم تدخلها بإرادتها، ولا تلك المدينة التي يهرب منها أبناؤها طلباً للأمان والعيش... بل إنَّ البصرة الآن مدينة الحياة والشباب الذي يريدون تحقيق الحلم، فما حدث في افتتاح خليجي 25، وفتح أهالي البصرة أبواب بيوتهم للزوار، يجعلها مدينة حيّة، وتتجدّد مع كل عهد.

فماذا بعد هذا الحدث الهائل؟ هل ستتغير مدينة البصرة نحو الأفضل، بناءً وبنى تحتية، والأهم من ذلك كيف سيغيّر الأشقاء العرب رؤاهم نحو هذه المدينة تحديداً، والعراق عموماً؟