الكونكريت.. تاريخٌ مختزلٌ للبشريَّة

بانوراما 2019/04/06
...

ترجمة وإعداد: مي اسماعيل
مع استمرار المناقشة البحثيَّة عن موقع وتاريخ استعمال الكونكريت لأول مرة (يمكن القول إنَّ تجار الصحراء استخدموا أنواعاً أوليَّة من الكونكريت ليقيموا خزانات للماء تحت الأرض منذ نحو ثمانية آلاف سنة. أما المصريون القدماء فقد استخدموا الجبس والجير لصنع الملاط “mortar”؛ ولكنْ
لا جدال أنَّ أول من استخدم الكونكريت بالشكل الذي نفعله اليوم هم الرومان). 
استخدم الرومان الكونكريت في جميع مبانيهم، من الحمامات والقنوات الى الموانئ وحلبة الكوليزيوم، وطوروا إنتاجه واستخدامه بأساليب منهجيَّة منذ القرن الثالث قبل الميلاد حتى سقوط الإمبراطورية في القرن الخامس الميلادي؛ والعديد منها باقٍ حتى يومنا هذا.. 
لكن منشآتنا الكونكريتية الحديثة لن تعمر طويلاً هكذا؛ فلن يبقى الكونكريت الحديث مدة أطول من مئة سنة دون إصلاح جذري أو استبدال.. يقول الباحث الأميركي “روبرت كورلاند” في كتابه “كوكب الكونكريت”: “على العكس من معبد البانثيون الروماني؛ سيتعين علينا استبدال جميع مبانينا الكونكريتيَّة يوماً ما؛ مما سيكلفنا مليارات الدولارات”.
يبدو أنَّ سرَّ هذا البقاء الطويل هو استخدام الرماد البركاني؛ أو- “pozzolana”؛ ففي حين يستخدم الكونكريت الحديث خلطة من الأسمنت (ذو الأساس الجيري) والماء والرمل والحصى (أو الصخر المسحوق)؛ فإنَّ الخلطة التي اعتمدها المعماري “فيتروفيوس- Vitruvius”  في القرن الأول ق.م. تضمنت الصخور البركانيَّة المسامية (المعروفة باسم “tuff”). أما الكونكريت البحري الذي استخدمه الرومان تحت الماء لإنشاء الدعامات وكاسرات الأمواج؛ فقد أثبت بحثٌ نُشِر سنة 2017 أنَّ ماء البحر زاد فعلياً من قوة تلك الهياكل؛ ما جعلها تزداد قوة عبر القرون. ومن أهم الأمثلة المدهشة الباقية حتى اليوم على استخدام الكونكريت الروماني معبد “البانثيون-Pantheon”  في روما؛ الذي وصفه الفنان مايكل أنجلو قائلا: “إنه تصميمٌ ملائكي وليس بشرياً”. وهو مبنى ما زال يبدو عصرياً بشكل يثير الإعجاب حتى يومنا هذا، وفيه أكبر قبة من الكونكريت غير المسلح في العالم.. وهذا بعد 19 قرناً من تشييدها!
 
إعادة اكتشاف.. بعد 14 قرناً
ما عدا بعض الأمثلة القليلة المتفرقة؛ تطلب الأمر نحو 1400 سنة بعد سقوط الامبراطورية الرومانية الغربية ليعاد استعمال الكونكريت ثانية على نطاق واسع. أعطى اختراع الكونكريت المسلح حياة جديدة لتلك المادة، وكانت الريادة فيه لفرنسا أواسط القرن التاسع عشر؛ لكن المهندس الأميركي “ايرنست رانسوم- Ernest Ransome” هو الذي فتح بوابة الاستخدام الأوسع للكونكريت (في مقره بكاليفورنيا)، حينما صبه فوق قضبان الحديد ليُحسّن من قوة الشد “tensile strength” فيه. كان مبنى مخازن شركة “آركتيك” للنفط في سان فرانسيسكو أول بناء أنجزه بالكونكريت المسلح بأسياخ الحديد، وقد اكتمل سنة 1884. وبعده بخمس سنوات شيد رانسوم جسر “آلفورد ليك” في غولدن غيت بارك؛ ليكون أول جسر شيد في العالم بالكونكريت المسلح. هدم مخزن شركة “آركتيك”سنة 1930؛ لكنَّ جسر آلفورد ليك لا يزال أقدم شاهد على مباني الكونكريت المسلح. ومع أن رانسوم ذاته لم يشارك في انشاء أول ناطحة سحاب من الكونكريت في العالم (مبنى اينغالز في سينسيناتي ذو الستة عشر طابقاً) سنة 1903؛ لكن هذا لم يكن ليتحقق لولا اسلوبه في تسليح الكونكريت. 
وفي هذه الأثناء أنشأ المخترع الأميركي “جورج بارثلميو-George Bartholomew” أول طريق في العالم من الكونكريت في بيلفونتين بولاية أوهايو.. يبقى الكونكريت طويلاً مقارنة بطرق الاسفلت؛ لذا اتسع استخدام تلك التقنية في الطرق السريعة داخل الولايات؛ ولا يزال طريق الكونكريت الأول الذي أقيم سنة 1891 قيد الاستخدام حتى اليوم.
في أواخر صيف 1906، بعد فترة قصيرة من زلزال مدينة سان فرانسيسكو المدمر؛ أعلن “توماس أديسون” مقترحه لإنتاج منازل بالجملة، مشيدة من الكونكريت المقاوم للحريق والزلازل، عصية على النمل الأبيض والعفن والتفسخ. لعقود طويلة شيدت منازل خاصة التصميم من الكونكريت المسلح؛ لكنها عالية الكلفة؛ فكانت خطط أديسون لإنتاج المنازل بالجملة ستخفض كلف الانشاء. اقترح المخطط انتاج أثاث من الكونكريت المصبوب (من تصميم أديسون)، ووضع الطعام في ثلاجة كونكريتية، والاستماع للموسيقى عبر خزانة الفونوغراف الكونكريتية. قال أديسون عن مقترحه: “سأعيش حتى أرى اليوم الذي يمكن فيه بناء دار من الكونكريت للرجل العامل خلال اسبوع واحد. فاذا نجحتُ؛ سيغادر كل شخص جدير الأحياء الفقيرة”. لهذا الغرض أعلن المخترع أديسون أنه سيمنح تقنيته المسجلة تجاريا (وله براءة اختراعها) لأي شخص يعد أن يخصص الغالبية العظمى من الدور الجديدة لسكان الطبقة العاملة، ولا يكون له أكثر من نسبة عشرة بالمئة من الأرباح.. لكن أول تلك الدور لم ير النور إلا بعد عقد كامل.
 
تحرير طاقة الابتكار
أقيمت بضعة مشاريع لإنشاء دور الكونكريت في أرجاء الولايات المتحدة؛ منها ما بات معروفاً باسم “مدينة الأسمنت” في دونورا (جنوب بيتسبيرغ)، لكن حلم منزل الكونكريت الواسع قليل الكلفة لم ينطلق تنفيذياً بشكل حقيقي. وتطلب الأمر انتظار المعماري المتميز “فرانك لويد رايت” لتحقيق آفاق جديدة حررت طاقات الكونكريت المسلح ليخلق منها أشكالاً جديدة تماماً. يعتبر البعض بنايته الأولى من الكونكريت: كنيسة “يونتي تيمبل في أوك بارك- الينوي سنة 1908 أول المباني الحديثة في العالم. 
استخدم رايت تلك المادة في العديد من تصاميمه؛ ومن ضمنها أشهر أعماله: منزل الشلال في ميل ران- بنسيلفانيا، الذي تمتد شرفاته البارزة فوق شلال صغير ينحدر ليشكل جدولاً يسير بين الأشجار. وهو تصميم كان سيستحيل تنفيذه بدون قوة الشد التي يتمتع بها الكونكريت المسلح. شهدت سنوات الثلاثينيات أيضا انشاء سد “هوفر” على نهر كولورادو قرب لاس فيغاس. وكان في حينه أكبر مشروع مكتمل مشيد من الكونكريت في التاريخ؛ استخدم فيه نحو ثلاثة ملايين متر مكعب من تلك المادة. وسرعان ما فاقه سد “غراند كوولي” على نهر كولومبيا؛ وأخيرا جاء سد “الممرات الثلاثة-Three Gorges Dam”  في الصين؛ الذي استهلك نحو 27 مليون متر مكعب من الكونكريت.
في الخمسينيات صاغ معماريون ذوو نظرة جديدة الكونكريت صياغة حديثة، وقدموا به نتاجاتهم بأشكال غريبة وجريئة. قال المعماري البرازيلي “اوسكار نيماير”؛ أحد أهم رواد التجديد في الكونكريت: “لا يوجد سبب لتصميم مبانٍ أكثر استقامة وانتظاماً؛ فبوجود الكونكريت يمكن تسقيف ((وتشكيل)) أي فضاء تقريبا”. اضافة للأشكال الجميلة التي حلمت بها ونفذتها مواهب فذة مثل رايت ونيماير؛ يعدُّ الكونكريت الحديث بالطبع المادة المفضلة لدى مصممي مباني المكاتب المرتفعة الرتيبة ومواقف السيارات الكئيبة متعددة الطوابق أيضا؛ لتنتشر كتلها الرمادية الضخمة المتكررة في كل دولة ومدينة على الأرض.
بالرغم من المخاوف البيئيَّة المتزايدة يبقى الكونكريت المادة المفضلة لدى أغلب البنائين؛ وقد أعطته تقنية الطباعة ثلاثية الابعاد حياة جديدة.. تذكروا جسر شنغهاي الذي أُزيح عنه الستار بداية العام الحالي (المنفذ بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد)؛ ومخططات العسكرية الأميركية لطباعة ثكنات الجنود، والتخطيط في آيندهوفن بهولندا لبناء أول منازل خرسانية مطبوعة ثلاثية الأبعاد صالحة للسكن في العالم. ومع ذلك؛ لن تعيش أي من تلك الهياكل الحديثة أطول مما عاش البانثيون؛ وأقلها بالذات تلك التي تحتوي على الكونكريت المسلح بالحديد.. وعودة الى”كورلاند” و”كوكب الكونكريت”: “جعل تسليح الحديد عالمنا ممكناً.. ولكنه لا يجاري ما استخدمه الرومان من حيث الاستمراريَّة؛ فالحديد يصدأ بتقادم العقود، وقد يتمدد حتى يخرق ما جاوره من الكونكريت ويصيبه بالتشققات. وهكذا فإنَّ قوة الشد المبهرة للكثير من منشآتنا ما هي إلا أمر مؤقت..”.
 
نيك فان ميد- الغارديان البريطانية