شذرات

ثقافة 2019/04/06
...

رعـد فاضل
ما الشِّعر. فحمٌ أم ماس؟. 
ولكن هل للفحم والماس سحرٌ سوى ذلك التّحوّلِ من الشّائع (الأصلِ) إلى النّادر (المُستنبَطِ المُبتَـكَر) الثّمين؟. وأيضاً ما هذا السِّحرُ الذي نسعى بكـدٍّ إليهِ: سحرُنا في الشِّعر أم أنّ للشّعر سحراً فينا؟. من جهتي حتّى الآنَ هو: تلك القوّة النّاعمة التي تبحث في جماليّات وثقافاتِ العالم والإنسان والأشياءِ، بحثَ مُتَقصّ مُكتنِهٍ راءٍ لتؤسِّسَ لأشكال اِفصاحٍ دائمةِ التّحوّل، للتعبير عن تلك الجماليّاتِ والثّـقافات. وبهذا يكون الشّعر عيشنا الجماليّ والثقافيَّ الذي ليس لنا نحن شغِّيلتَهُ وجود شخصيّ مائزٌ من دونه. الشّعر بوصفه سحراً هو ما لا نخفيه وما لا نعلنهُ كي يظلَّ ساحراً ونظلّ ساحرين بهِ ومسحورينَ، وبما أنّه وهمٌ كونه سحراً فلا يمكن مطالبته بما هو خارج وجوده اليوتوبيِّ هذا. من هنا تظلّ القراءات والدّراسات الدّارجةُ للشّعر في معظمها مسترخية كسولةً لأنّها لا تجيد ألعابَ هذا السِّحر. ذلك هو سحر الشّعر الذي ما عاد مُتعيّناً عليه أن ينجز المعنى ذاتَه بل التباساتِ هذا المعنى وتشظّيهِ، وآثارَ هذا التشظّي، هذه الاِلتباسات والآثارُ التي هي أقرب ما تكون إلى الصّوفية التي تتناغم فيها حركاتُ المُتناقضات: العلويّ بالأرضيّ. الباطنيّ بالظاهريّ. العميق بالعائم. والعالَم بالكائن، (شبكةُ علاقاتٍ من الادهاش والسّحرِ الكيميائيينِ جمالياً ومعرفياً وثقافياً).
 
شعريَّة الكتابة
ذلك هو الشّعر بوصفه أرُومَة سحريّة مُتعذّرةً على كلّ سطحيّة للفهم لأنّه تشرّبَ بالميتافيزيقيّات (السِّحريّاتِ) فصار مدهشاً بعد أن صار رائياً، وصار عَرَضاً بعد أن كان جوهراً. صار عابراً لحدود سحر جنسهِ إلى أسحار الكتابةِ التي ليس لها جنسٌ بعينهِ، عابراً إلى شِعريّة الكتابة. وليظلّ سحريّاً لا بدَّ أن يظلّ فعلاً لازِماً كونه قوّة مهذَّبةً وغير معقولةٍ، كونه نابعاً من عجزنا عن تفسيره تفسيراً نهائياً وحاسماً، وكذلك من قدرتنا على تأويله دائماً بأشكال ودلالات عِدّةٍ متباينة ومتواصلةٍ، كونه موجوداً من خلال علاقاتِه مع ما حولَه بوصف هذا الماحول فعلاً مُتعدِّياً. من هنا يأتي التّعلّق بالشِّعر سحريّاً لأنّه رؤيا شمولية وشخصيّةٌ معاً في النّظر إلى اللغة والمعرفة والعالم والإنسانِ والأشياء. إنّه بكلمةٍ: مُثير اِشكاليات لا واضعَ حلول. الشّعر يتطلّب اكتشافاً مستمرّاً وتخليقاً لأساليبَ تنسجم وهذا التّطلّبِ، بسببٍ من أنّ هذه الأساليب بوصفها أشكالاً لا بدَّ وأن تتحوّل إلى أعراف ترسَّخُ استخداماً بعد آخر فتضربها القَدامةُ، وما من سحرٍ البتّة في كلّ قالب وعُرفٍ وتقليد. سحر الشّعر يكمن في التّحوّل والغرابة والدَّهش والذّهول واللعبِ في الأعماق بالجواهر ومعاشرةِ عرائس البحرِ والجنيّات وترويضِ الكواسج وتلقين الدّلافينِ دروساً في الدّهاء. سِحرُ الشّعر أن يتعلّم العالَم قراءةَ طوالع المجهولِ وفكَّ طِلِّسماتهِ. من هنا يتموّن الشّعر بسحره، ومن هنا أيضاً لا حدَّ نهائيّاً لأشكاله وأساليبه وطرق تعبيرهِ، غير أنَّ هذا السّحر لا يعني أن يلعب: (فوقَ) ذلك أنّ هذا اللعب لفوقيّته سيجعل الشّعر منعزلاً ومضجراً. كما أنّ لعبه: (تحتَ) سيجعله منقطِعاً عن العالم. مثلما أنّ عَـوْمه على (السّطح) سيجعله مألوفاً ومبتذلاً.
في هذا الضوء السحريِّ: الشّعر لا مكان له كي يتموقع فيه. الشعر حرث في الاتّجاهات كلّها. الشعرُ سَيّارٌ طيّار مَشّاء عوّام غوّاص وكشّافٌ في آن. من هنا يكون أعمق مايتبنّاه الشِّعر هو تلك الطبقات المسكوت عنها من العيش والثقافة والتّاريخ، من الأسطورة والواقع، من المألوف اللامألوف، أي من المُختلِفات والمُؤتلِفات في آنٍ معاً. سحر الشّعر: تَشبِيح للأشياء لتكون مذخّرَة بالدّهشة أي قابلةً للتقصّي والاِستكناه. هكذا يكون الشّعر علاقة نادرةً ما بين المُسمّى (الإنسان. الواقع. الحضور. الطّبيعة. الحياة) وغير المُسمّى (المجهول. الغياب). إنّه صيرورة تؤسّس لسحرها هذا، وترسّخ له لتكون كتابة نوعيةً من الفكْر والأشكال الفعّالينِ، ولتكون بالمغزى الأكثر خصوصيّة وسحريّةً للكلمة شعراً لا يكتَبُ بالعادة بل بالابتكار. الشعرُ قبل كلّ شيء: حياكة وتطريزٌ يدويّانِ فريدان.
 
تعددية صوتيَّة
* ليس هنالك فرق نوعيّ جوهريّ بالمعنى العميق للكلمة (من الناحية الموسيقية) مابين الشعر في شكله العموديّ والآخر التفعيليّ، ذلك أنّ الأول يقوم على عدد التفعيلات نفسه الذي تشتمل عليه أبيات القصيدة كلّها، ثم على وحدة القافية. أما الثاني فيقوم على تعددية التّفعيلات والتّقفية، أي إنّه خرج من: الصوت الّلحني الأحاديّ، إلى: التّعددية الصّوتية. أمّا قصيدة النّثر أو ((التّعبير شعريّاً بالنثر)) فهي لم تؤسس لقطيعة مع الشّعر، بل ((إنّنا لا نرى في اطلاق اسم الشّعر على بعض النصوص المكتوبة بغير الوزن بقطيعة مع الشعر العربيّ، بل مع البحور الخليليّة)) كما كتب أحد
 المفكّرين.
* المعرفة بالنسبة للشاعر برأسين: أولهما معرفيّ جمعيّ. وثانيهما استبطانيّ اكتناهيّ شخصي. هذا ما نبّهني إليه ابنُ منظور: ((كان أبو نوّاس قد استأذن خَلَفاً في نظم الشّعر، فقال له خلف: لا آذن لك في عمل الشّعر إلّا أن تحفظ ألفَ مقطوع للعرب، ما بين أرجوزة وقصيدة ومقطوعة، فغاب عنه مدّة، وحضر إليه، فقال له: قد حفظتُها، فقال انشدْها، فأنشده ثم سأله أن يأذن له في نظْم الشّعر، فقال له: لا آذن لك إلّا أن تنسى هذه الألفَ كأنّك لم تحفظها)). (من: أخبار أبي نوّاس).على هذا الأساس يكون الشاعر بهذا المعنى حرقاً لثقافات سبقته. والنسيان هنا هو ليس عدم التّذكر، بل هو تحريض للابداعيّة الشخصية على الابتكار الشّخصي.