الصقرُ العراقي يعودُ مُحلِقاً

آراء 2019/04/06
...

د. علي يوسف الشكري
بعد غيابٍ عن أروقة الجامعة العربية دام أكثر من ثلاث عشرة سنة بفعل سياسات النظام السابق الهوجاء التي جاءت على الحرث والنسل فحرقت الأخضر بسعر اليابس وجاءت نيرانها على الجار والشقيق. وعودة خجولة متواضعة بعد التحرير لم يكن هناك بدٌ منها أو بديلٌ عنها دامت لعقدٍ ونصف من الزمان، يعودُ العراق لأروقة الجامعة العربية قائداً ورائداً محتفى به بما حقق بعد أنْ نقش المجد في صخر.
فقد اعتاد العراق ومنذ قمة القاهرة 1990 على تلقي الضربات وفرض العقوبات وإيقاع الجزاءات حتى فرض عليه الحبس منفرداً بين جدران الوطن الأسير بعيداً عن الحضن العربي الدافئ، كيف لا وهو من وعد وهدد وزمجر ونفذ فغزا الجار الأقرب، بل الشقيق الذي شاركه الدم قبل الحدود والتاريخ قبل الجغرافية والدين قبل العروبة، فضلاً عن وحدة السلالة
 والانحدار.
وكذب قادته وصدقوا ما افتروا انهم قادرون على أسر وطن الغرباء كما الأشقاء، فراحوا يهددون الكبار كما الصغار والأقوى كما الأضعف، بل راحوا يتوعدون صناعهم ومن أنتجهم ناسين أو متناسين أنَّ الجميع عالمٌ مطلعٌ، فما من طاغية مستبد يولد إلا ويقف وراءه صانعٌ بانٍ ومخطط
 ومبرمجٌ.
وبعد سقوط الوطن أسير القوات الأجنبيَّة راح يبحث عن الحضن الدافئ الذي يعيد له الكرامة المهدورة على يد طاغية أهدر إنسانيته قبل الآخرين، إلا أنَّ الصد والمقاطعة وغض الطرف كان البديل، فراح العراق يبحث في دفاتره وأوراقه عمن يعيد العلاقات ويقيم الصلات ويتبادل التجارات، فالعراق جريح أسير كسير دمي، إذ حل الإرهاب محل الاضطهاد وراح الدم العراقي يُسفكُ بسعرٍ أرخص من الماء غير الرائق.
ومذ قمة القاهرة 1990 وحتى قمة السعودية الأخيرة، كان السائد المعتاد، تصدر الشأن العراقي شؤون القمة ولكن ليس في جانبه الإيجابي بل في شقه السلبي، والحصيلة مزيدٌ من المقاطعة والعزلة والتأنيب والتوجيه بوجوب التصحيح والتصويب وتحديد المسار باتجاه هذا أو ذاك.
وحدث الانعطاف الأكبر في قمة تونس التي مثل فيها العراق الرئيس صالح، إذ كان العراق محط أنظار الجميع، وراح رئيسه مرغوباً مطلوباً يُقبلُ الجميع عليه ولا من مدبر، فالقوي القائد يُطلبُ اللقاء به والشقيق الودود الذي تبنى الوسطيَّة يحتفي به، ومن شحت عليه الثروة وضعف اقتصاده راح يرجو وصله.
وحدث الجديد المميز في هذه القمة، إنَّ العراق من القلائل الذي لم ينضم لهذا المعسكر أو يتحزب لذلك، فهو صديق القاصي والداني، الجار إقليمياً والبعيد، من شاركه الحدود ومن قاسمه الدم والعرق.
بل ربما كانت العلامة الفارقة التي غابت عن سجل العراق في أروقة القمم إنَّ كل الكلمات راحت تشيد بما أنجز وما حقق، كيف لا وهو من توحد فيه الدم العراقي فاختلط الدم الكردي بالدم العربي، وقدم الشيعي نفسه السني في كل الميادين، فراح العراق موحداً من أقصاه الى أقصاه بعد أنْ أريد له أنْ يكون فرقاً وشيعاً ومللاً ونحلاً، وآن الأوان أنْ يعود العراق محلقاً في سماء العرب وهو الهازم للإرهاب والحامي للديار والذائد عن أشقائه بعد أنْ قاتل أعتى إرهاب عرفه التاريخ نيابة عن العرب، وكيف للعرب ألا يحتفوا بالعراق القادم وهو من شرع بمشوار المليون ميل بخطوة واثقة. 
فعادت بغداد تحتضن بين جنباتها وفِي القصرين الرئاسي والحكومي، الشرق والغرب، الجار والإقليم، المتحابين والمتضادين، فالعراق الجديد عراق الوحدة، صديق الجميع إلا من قرر مجافاته، عراقٌ ليس فيه تحزبٌ لهذا أو مناصبة العداء لذاك، فالعراق الجديد كما شعبه، ناصر المظلوم، غائث الملهوف، داعم المحتاج، مجالس الكبار، فليس للعراق بتاريخه وجغرافيته وعمقه وثرواته وعلمائه وقادته وطاقاته إلا أنْ يكون قوياً ورائداً وقائداً متصدراً، وربما ستكون ريادته في قمة تونس أول الغيث الذي يبدأ
 بقطر.