يقاس المستوى المعيشي للمجتمعات بحصة الدخل الفردي من جملة الدخل القومي للدولة، أي بقسمة الدخل القومي مقيّماً بالعملة على جملة السكان في المجتمع. ذلك هو الشائع في الحسابات القوميَّة.
ويعدُّ ذلك القياس مُضللاً ولا يعبر عن واقع المستوى المعيشي لأفراد المجتمع كافة، فيتفاوت الدخل الفردي من شخص لآخر حسب وظيفته أو نشاطه الإنتاجي أو انتمائه الأسري أو طبيعة عمله، إذ يوجد فقراءٌ في مجتمعات عرفت بالرفاهيَّة والغنى، كما يمكن أنْ نجد أفراداً ميسورين وعائلات مرفهة في مجتمعات فقيرة، ذلك الواقع الطبقي موجود في معظم دول العالم.
ومع ذلك يعدُّ متوسط الدخل الفردي مؤشراً مقبولاً لتقييم مستوى معيشة الفرد في الدولة إنْ تم حسابه تدرجاً لكل فئة من فئات المجتمع عدداً، على أنْ يؤخذ بنظر الاعتبار انحرافُ مستويات الدخول لفئات القوى العاملة باعتبارها الطبقة الأكبر عدداً عن متوسط الدخل
الفردي.
كما أنَّ المقارنات بين الدخل الفردي وبين تكاليف المعيشة والتي تجريها الجهات الحكوميَّة المختصة يمكن أنْ تسهم في تطوير التشريعات الخاصة بتحديد الحد الأدنى من الأجر، وإنصاف القوى العاملة بالدخل المكافئ لقوة العمل
المنتج.
وعند استعراض برامج الحكومات في معظم دول العالم نجد أنها حريصة على زيادة حصة الدخل الفردي من الدخل القومي، أو إيجاد أفضل السبل للاقتراب من عدالة توزيع الدخل القومي، وذلك هدفٌ نسبيٌّ وصعبُ التطبيق في دول العالم كافة، فالدخل الفردي عرضة للتآكل مقيماً بالعملة (الراتب أو الأجر النقدي المباشر للأعمال المؤقتة)، كما أنَّ الدخل الفردي أو الأسري يعدُّ الطرف الأضعف في معادلة (متطلبات الإنفاق الفردي أو الأسري) من جهة و(تكاليف المعيشة) من الطرف الآخر. ويتعرض لعددٍ من المتغيرات المؤثرة في قدرته على الإيفاء بالإنفاق على متطلبات المعيشة وهي:
ــــ التضخم (ارتفاع أسعار السلع والخدمات): إذ تتعرض القوة الشرائيَّة للدخل الفردي للتآكل عند حدوث ظاهرة التضخم التي تعدُّ ظاهرة ملازمة للاقتصاد في أوقات النمو وفي الأزمات، كما أنَّ ارتفاع الأسعار أمرٌ واقعٌ مع تقادم الزمن.
ــــ ضعف النظام النقدي أو انهياره: فالأجور والرواتب المقيمة بالعملة عرضة للتآكل بسبب ضعف القوة الشرائيَّة للعملة أو انهيارها في حالات الأزمات والحروب. وبذلك يكون الدخل الفردي من ضحايا الأزمات الماليَّة وتداعي النظم النقديَّة.
ــــ تضاؤل القدرة الشرائيَّة للدخل الفردي المحدود المعيل لأسرة. فكلما زاد عدد أفراد الأسرة واتسعت حاجاتها الضروريَّة، فالدخل الفردي المحدود يمكن أنْ يزداد سنوياً ولكنْ بنسبة ضئيلة تقل عن نسب التضخم المتمثل بارتفاع الإنفاق على متطلبات المعيشة من سنة
لأخرى.
وعند تقييم عدالة توزيع الدخل القومي في معظم دول العالم، يندر وجود العدالة المطلقة في توزيع الدخل القومي بين أفراد المجتمع، على اعتبار أنَّ ذلك الأمر تحكمه طبيعة النظام السياسي واستقراره للدول. فالدخل الفردي، سواء في النظم الرأسماليَّة أو الاشتراكيَّة أو المختلطة معرّضٌ للتآكل للأسباب المذكورة ذاتها مع التفاوت في مدى وضع الدولة الاقتصادي قوة أو ضعفاً، كما تعدُّ النظم الضريبيَّة ونظم الضمان الاجتماعي من العوامل المؤثرة في قوة أو ضعف الدخل الفردي.أما تكاليف المعيشة في المجتمعات فإنها ترتفع أو تنخفض بتأثير عددٍ من العوامل:
* الاستقرار السياسي وأهلية الحكومات في تطبيق نظمٍ عادلة في توزيع الدخل القومي، والحد من نسبة البطالة في المجتمع، وذلك من شأنه أنْ يجعل تكاليف المعيشة قريبة من متوسط الدخل الفردي.
* حجم الدخل القومي المتنامي المضمون يتيح استقراراً لتكاليف المعيشة وأقل عرضة للتضخم، فكلما كانت الواردات المالية للدولة مستدامة النمو وشمل توزيعها معظم فئات المجتمع على أسس العدالة يتحقق الاستقرار في تكاليف المعيشة.
* حجم الناتج المحلي الإجمالي وشمول فئات المجتمع في تكوينه، فكلما كبر وشاركت في تكوينه أوسع الفئات الاجتماعيَّة وأنشطتها الإنتاجيَّة والخدميَّة ضمن استقراراً لتكاليف المعيشة.
* اختلاف تكاليف المعيشة حسب التوزيع الجغرافي، فتكاليف المعيشة في المدن أعلى منها في الأرياف، والمدن الكبيرة أعلى تكلفة من المدن الصغيرة.
* ارتفاع تكاليف المعيشة في الدول ذات الكثافة السكانيَّة العالية، وفي المدن ذات الأعمال والأنشطة الاقتصاديَّة الكثيفة.
وترتفع تكاليف المعيشة لتلك الأسباب التي ذكرت في الدخل الفردي كالتضخم وقوة أو ضعف العملة. ويمكن اعتبار التشغيل الكامل للقوى العاملة وعدالة نظم الأجور التي تحدد بالتوازي مع تكاليف المعيشة، من الأهداف التي تسعى الحكومات لتحقيقها
لمجتمعاتها.
في ظروف عدم الاستقرار السياسي تسعى الإدارة المالية في الحكومات (وزارة المالية والبنك المركزي) الى وضع معايير واقعيَّة لمستويات الأجور وتعملُ على الحد من ضخ سيولة نقديَّة إضافيَّة في
الأسواق.
فتضخيمُ الرواتب أو التوسع في الإنفاق العام يتسبب بموجة تضخميَّة، إذ يرفع المنتجون وإدارات منافذ التسويق أسعار السلع والخدمات بحجة ارتفاع تكلفة مدخلات الإنتاج (بما فيها الأجور) للحفاظ على نسبة الربح المحددة أو حتى المبالغ
فيها.
لذا يتطلب الأمرُ السيطرة على مستوى الأسعار وإلاّ سيبتلع التضخم أية زيادة في الأجور، ولعلَّ ذوي الدخل الضعيف هم الأكثر تأثراً بالتضخم، فعدالة توزيع الدخل القومي تتطلب الحد من تفاوت مستويات الرواتب والأجور بين فئات
المجتمع.
وتلخصُ موسوعة جامعة “ستانفورد للفلسفة ـــ الأميركية” الانتماء المنهجي لعدالة توزيع الدخل القومي بما يلي: “غالبًا ما تعدُّ مسألة عدالة توزيع الدخل القومي لا تنتمي إلى الفكر الاقتصادي، ولكنْ توجدُ في النظريَّة الاقتصاديَّة معالجة للقضايا المعياريَّة في العدالة الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة، وهناك عددٌ من النظريات والنُهج الاقتصاديَّة التي تتضمن العديد من الأفكار بشأن العلاقة بين الدخول وعدالة توزيع الدخل القومي. بما في نظرية عدم المساواة وقياس الفقر، واقتصاديات الرعاية الاجتماعية، ونظرية الاختيار الاجتماعي، ونظرية المفاوضة ونظم التعاونيات، ونظرية التخصيص العادل. وهناك قدرٌ كبيرٌ من التداخل بين هذه الفروع المختلفة للاقتصاد المعياري والنظريات الفلسفيَّة
للعدالة”.