تسوّل

ولد وبنت 2023/01/16
...

  وائل الملوك

ثلاث دقائق في تقاطع جامع النداء، وقبل أيام طرق نافذة سيارتي شاب بملابس أنيقة وبيده هويته ومستمسك آخر، تحدث لي، قائلا  {لقد سرقت نقودي.. وأنا بحاجة للمال للعودة لمحافظتي}، وبدأ يسرد لي حكايته عن سبب قدومه لبغداد، والإجراءات الطبية التي قام بها، وكيف شعر بفقدان نقشوده، وبالتاكيد قمت بمساعدته لحل أزمته.

طلبت منه أن أقوم بايصاله إلى "كراج النهضة"، لكنه رفض أن يزاحمني أكثر ودعا لي وذهب لحاله، وبعد أقل من دقيقة.. طرق شاب آخر نافذتي، وطلب مني مبلغاً من أجل أن ياكل، وكان حاله متعبا، وايضا ساعدته، لكن لفتت نظري مجموعة الكتب التي يحملها، ولم أستطع أن أسئله عن سبب حمله للكتب، لفتح التقاطع وسير المركبات.

وفي اليوم الثاني، الصدفة دعتني أشاهد الاثنين في تقاطع كهرمانة عند توجهي لمنطقة الكرادة، وهما بالحال نفسها التي وصفتهما سابقا، مع وجود شباب آخرين، وكل يحمل بيده شيئاً لبيعه، لكنها بصراحة تلك أكذوبة، بل هم يستخدمون هذه للتغطية وعندما يقتربون منك سرعان ما تكتشف بأنهم متسولون. الأهم أنني ناديت الشخص الذي كان يحمل الكتب، وأبلغته بأنني أعمل في مجال الإعلام، وابحث عن ظواهر في المجتمع، نحاول أن نسهم في معالجتها من خلال طرحها، على أمل أن تجد الحلول من الجهات الرسمية وغير الرسمية، حسب نوع القصة 

والحدث..

وافق الشخص المدعو حيدر ساهر الحضور معي بشرط عدم نشر صورة له لأسباب تتعلق بعائلته، وجلسنا في مقهى في شارع الكرادة داخل قريب من ساحة كهرمانة، وبدأنا الحديث بعد أن اطمئن من شخصي، وأبلغته إن لم يرغب بالحوار والحديث فلا مانع لدي المهم أنني سعيد بمعرفته، لكنه أبدى موافقته، وبدأ الحديث عن هواياته في الكتب، اذ أدهشني بقراءته أبيات لأبي العلاء المعري من قصيدته "تعب كلها الحياة" وهي واحدة من القصائد المؤلمة، ومن ثم تحدثنا عما يميز المتنبي بقصائده، وبعدها انتقل إلى الحديث عن مفاهيم الكاتب بول ريكور وكتابه" الزمن والسرد"، وهنا أوقفته للحديث عن نفسه، وتبين أن حيدر شاب عمره 27 عاما، خريج هندسة معادن، قدم على التعيين مرات عدة، ولم يحالفه الحظ، يسكن في إحدى المحافظات الجنوبية، وهو حاليا يسكن في بغداد مع مجموعة من اصدقائه القادمين من محافظات مختلفة في منطقة السعدون.

وخلال حديثنا المتبادل، لمته على وقوفه بالتقاطعات وممارسة التسول، أجاب متسائلا: عندما تكون لديك عائلة تتكون من أم مريضة وأخت تدرس وأخ صغير ومنزلك إيجار، ماذا تعمل وشهادتك عاطلة عن العمل؟ مبيناً أنه عمل في مطحنة للحبوب البلاستيكية في بوب الشام، وعمل في أكثر من أربعة مطاعم، قائلا: جميع أرباب العمل يستغلون العاملين ويعطونهم مبالغ غير المتفق عليها، فهل تتخيل أنني أعمل منذ الصباح الباكر حتى ساعات متاخرة ويعطينا 10 آلاف، واذا كان المبيت عنده يعطينا نصف اليومية، اضافة إلى أن اغلبهم بدأ يجلب أيدي عاملة اجنبية لقلة اجورهم.. لذالك لا تستغرب من تسولنا أنا وباقي الشباب الذين رأيتهم، لافتا إلى أن أغلبهم من حملة الشهادات وبلا عمل.

وعند سؤالي عن الكتب التي يحملها وكيف اكتسب ثقافته، قال: اكتسبت ثقافة الإطلاع والقراءة من والدي -رحمه الله-، كان يعمل مدرسا للغة العربية، وعند دخولي الكلية، بدأت استعين بكتب المكتبة المركزية للجامعة، وزادت هوايتي للقراءة عند مرافقتي لصديق يمتلك مكتبه، فاستعير منه الكتب واعيدها له بعد اكمالها.

وخلال حديثنا مرَّ من أمامنا الشخص الأنيق الذي إدعى أن نقوده سرقت، وسلم على حيدر ومن ثم رحل، ابتسمت.. استغرب حيدر من ابتسامتي وسألني عن السبب، وقلت له ان هذا الشخص ممثلا بارعا وسردت له القصة، فبادلني حيدر الابتسامة وقال: صدقني جميعنا مجبرون على الكذب، لأننا بلا عمل، ورزقنا الوحيد التسول".