ميادة سفر
يتحكم المال في كل جوانب الحياة الشخصية والعامة، ويبدو أنه لم يعد مقتصراً على التجارة والاقتصاد وتأمين مستلزمات الأفراد، بل انتقل إلى سوق المضاربات السياسية، حيث برز ما بات يعرف بالمال السياسي وتدخله وتأثيره في كثير من مفاصل الحياة السياسية لا سيما الانتخابات، هذا الوضع ليس حكراً على بلد محدد، بل شمل كل دول العالم العظمى منها والصغرى، الغنية والفقيرة، عبر استخدامه وسيلة ناجعة وناجحة غالباً لتغيير النتائج لصالح «من يدفع أكثر»، عبر ممولين معلنين تارة ومستترين غالباً، عبر دعم الحملات الانتخابية لمرشحين أفراد أو أحزاب أو تكتلات، تحقيقاً لأهداف مشتركة تعود بالفائدة على الطرفين وتعم المنفعة لكليهما.
لم يقف الأمر عند السياسة والانتخابات والأحزاب، بل تجاوزه إلى مجالات أخرى من الأعمال والنشاطات التي تدخل فيها أصحاب رؤوس الأموال خدمة لمصالحهم وأيديولوجياتهم، من مثل بعض المؤسسات الخيرية المرتبطة بتنظيمات دينية، إذ لا تكتفي تلك المؤسسات بتقديم مساعداتها للأفراد، بل تعمل استغلال الحاجة والفاقة في المجتمع لتستقطب الأشخاص وتضمهم إلى صفوفها، لاسيما الشباب الذين تجذبهم فكرة التطوع والعمل الخيري، لتصل لاحقاً إلى تجنيدهم في صفوفها عبر حشو عقولهم بأفكارها ومعتقداتها، ودفعهم لأعمال تخريب وقتل خدمة لمصالحها
وتوجهاتها.
في ضفة أخرى، لعب المال السياسي أو ما يمكن إدراجه تحت هذا المسمى شكلاً آخر من قبل الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة الأميركية، من خلال تهديدها للمنظمات الدولية بسحب دعمها لها في محاولة للضغط عليها وعلى بعض الدول الأعضاء، لفرض سياستها وقراراتها والتحكم بمسار ومصير الدول التي تتلقى الدعم، ودفعها للقبول والرضوخ لأوامرها وتعليماتها، مثل انسحاب الولايات المتحدة الأميركية من منظمة اليونسكو تحت ذريعة التحيز ضد إسرائيل ومحاولتها الضغط على السلطة الفلسطينية، بالتوقف عن دفع مساهماتها السنوية للمنظمة، وكذلك إيقاف تمويلها لوكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا” بهدف تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين، والضغط لإيجاد حل نهائي
للصراع.إنّ ما يقوم به صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ليس بمنأى عن تدخل المال في الشؤون السياسية والاقتصادية للدول الفقيرة والمحتاجة، تحت ذريعة تقديم قروض للدول الفقيرة الخارجة من الأزمات والحروب تبدأ رحلة السيطرة وفرض الهيمنة والنفوذ، والاستيلاء على موارد ومقدرات تلك الشعوب الفقيرة والتحكم بتحالفاتها السياسية والاقتصادية، إذ غالباً ما تتضمن القروض والمنح المقدمة شروطاً مجحفة بحق الدول تمس سيادتها الوطنية، ويتم عبر تلك الشروط التحكم والضغط على الدول ذات الأهمية الاستراتيجية في منطقتها لاتخاذ قرارات وإجراءات محددة تناسب المتحكمين بالبنك الدولي، ولنا في بلادنا العربية الكثير من الأمثلة على ما نقول إذ تحولت بعض الدول إلى رهينة ودمية بيد الصندوق والبنك الدوليين لعدم تمكنها من سداد ديونها التي تجاوزت ميزانيتها. كما لعب المال دوراً بارزاً في تنشيط ودعم الجماعات الإرهابية من قبل دول وأفراد وتنظيمات، ولدينا في سوريا والعراق أمثلة حية وأدلة قاطعة على الدعم الكبير الذي تلقته تنظيمات مثل داعش الإرهابي سواء بالمال أو السلاح، حيث أدى ذلك الدعم إلى تحويلها إلى قوة كبرى من شأنها تهديد أمن واستقرار الدول، بسبب الدعم المادي والمعنوي الذي كان هدفه تغيير مسار الأحداث بما يخدم مصالح أولئك الممولين من دول
وأفراد. نادراً ما تدخل المال السياسي لمصلحة الشعوب، وكثيراً ما يتم التحالف بين السلطة وأصحاب رؤوس الأموال لتثبيت أقدام الأولى واستمرارها وتأمين مصالح الثانية، ضاربين بعرض الحائط مصالح وأحوال ومستقبل الشعوب والبلاد، على الرغم من امتلاكها للموارد والثروات الطبيعية والبشرية التي من شأن استغلالها والاستثمار بها النهوض بالبلد وتخطي أعتى الأزمات، لكن البحث عن الحلول الآنية والمصالح الشخصية هو ما يتحكم في عمل كثير من الحكومات، وهو ما ستظهر نتائجه لاحقاً حين تستفيق على سيطرة المانحين وفرض استعمارهم بشكل جديد، وما الحل إلا بإعادة النظر بالسياسات وجعل مصلحة الشعوب فوق أي اعتبار، فهل من أمل؟!