المقاهي الثقافيَّة في دمشق

ريبورتاج 2023/01/19
...

  دمشق: علي العقباني


ترجع بعض المصادر والكتابات التاريخية ظهور  المقاهي عامة، والثقافية بشكل خاص في العديد من البلاد العربية إلى نهايات القرن الثامن عشر، إذ ترافق هذا الظهور مع بدايات بروز ظاهرة المثقفين الجدد من خارج الطبقات الأرستقراطية التي كانت أمسياتها تعقد في صالونات منزلية، وقيل ذات يوم أن مقاهي الشرق "كانت مركزاً فيه حرية التعبير"، وعموماً انتشرت المقاهي في منطقة الشرق منذ عام 1750م، وإذا كانت في بداياتها مكاناً للقاء وتمضية الوقت واحتساء القهوة والشاي، فإنها أصبحت في ما بعد ملتقى "الأكابر"، وانتقل إليها الحكواتي، وفي ما بعد النخبة من السياسيين والمثقفين والفنانين.

عاصمة الثقافة العربيَّة

في العام 2008 حين كانت دمشق عاصمة للثقافة العربية، حاولت اللجنة المنظمة إعادة الاعتبار لفكرة المقهى الثقافي، من خلال إقامة فعاليات في أماكن عامة ولا سيما مقهى الروضة الدمشقي العريق، الأمر حينها لاقى ترحيباً طيباً من كثيرين وامتعاضاً عند البعض، الفكرة حولت المقهى آنذاك من مكان لشرب الشاي والأركيلة والقهوة ولعب الشدة إلى دوحة من النقاش والذكريات، الحياة لم تستمر، وعاد مقهى الروضة الذي يعود تاريخ تأسيسه إلى  العام 1938 بحسب مصادر عدة، والتي تقول إنه بني بدلاً عن سينما صيفية كانت في المكان نفسه، ويقع وسط العاصمة دمشق في شارع العابد بالقرب من مبنى البرلمان السوري، ويرتاده الناس من مختلف الشرائح والأماكن في سوريا، فعلى تلك المساحة الضخمة التي تزيد عن (750 متراً مربعاً) والمقسمة على خمسة أو ستة مواقع داخلية، توزعت عن غير قصد بحسب رواد المقهى، وعاد إلى عاداته السابقة في استقطاب الناس من مختلف الفئات والطبقات والبلدان، ففيه كانت تدور رحى حوارات سياسية وأدبية وثقافية لا صدى لها في أي مكان، وفيه كانت تؤلف وزارات وتسقط دول وتغير أوطان وزعامات برشفة قهوة وسحبة أركيلة بدخان يصل لحدود سقف المقهى، بالإضافة إلى الرواد العابرين  والعسكريين والمتقاعدين والفنانين وطاولات الأمن الموزعة في مختلف أركان المقهى، ولا ننسى أولئك الذين يجلسون على واجهة المقهى صباحاً يراقبون المارة حتى تحين أعمالهم ومواعيدهم.


سفارة في المنفى

 يذكر الروائي والكاتب السوري خليل صويلح في إحدى مقالاته شخصية عراقية كنا نراها عند دخولنا من باب المقهى، يعرفه الجميع سوريون وعراقيون، طاولة تتصدر المدخل من جهة اليسار على أحد الكراسي رجل نحيل طيب معروف باسم «أبو حالوب» العراقي المقيم في دمشق بين بيته ومقهى الروضة، تلك الطاولة التي يجلس عليها بدت دوماً، بمثابة سفارة عراقية في المنفى، وذلك لأن العراقي الطارئ لا بد أن يتوقف دقائق أمام «أبي حالوب» لسؤاله عن عراقي آخر فقد أخباره، وبالطبع سيجيبه عن مكان هذا الشخص، وأين يقطن، ورقم هاتفه، وفي أي عاصمة أوروبية يعمل، وهل حصل على لجوء أم لا؟ كما وسّع أبو حالوب دائرة نشاطاته لتشمل أخبار المثقفين السوريين الذين يحجزون ركناً خاصاً في المقهى: من يتردد إلى المقهى ومواعيد حضوره، وموعد قيلولته؟ إضافة إلى خدمة توصيل الرسائل أو الكتب باعتباره «مستودع أمانات» أيضاً. ويحرص أبو حالوب تاريخياً على شراء صحيفتين يوميتين، واحدة محلية اسمها «تشرين»، وأخرى عربية تدعى «السفير»، ولم يغيّر هذه العادة منذ نحو ربع قرن وهو تاريخ مجيئه لدمشق من موسكو حيث درس فنون الطباعة.


نخب ثقافيَّة

العراقيون في تلك الحقبة مثقفون خائفون، لاجئون هاربون من حكم صدام حسين آنذاك (المعارضة العراقية) يتوزعون بين مقهى "الروضة" وسط شارع العابد و"الشرق الأوسط" بالقرب من المرجة ومقهى "الكمال" بالقرب من سينما الكندي، وكان كرسي الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب ركناً أساسياً في مقهى "الهافانا" والذي كان يقصده نخبة من المثقفين السوريين والعراقيين، وكانت طاولة النواب غاصة بالوجوه الحالمة والمترقبة للشعر والحياة، وبعض الحانات القريبة والرخيصة، ملامح حزينة مترقبة، تعرفهم من قسماتهم وأصواتهم العالية وحزنهم الشجي، وحواراتهم الصاخبة والساخنة، وذلك كان قبل الاحتلال الأميركي للعراق، واختلط الحابل بالنابل أثناء الاحتلال من نازحين وفارين، أما اليوم فالوافدون العراقيون إلى تلك الأماكن خليط فريد برفقة بعض المنفيين القدامى والذين اختاروا البقاء، وقد عبر هذا المقهى، منذ الخمسينيات، إلى اليوم عشرات الشخصيات المشهورة كمظفر النواب الهارب من صدام حسين إلى سعدي يوسف، وجواد الأسدي، وجبر علوان، وهناك اليوم رواد جدد بعضهم قديم جدد زياراته للذكرى ولقاء الأصدقاء والصديقات وقضاء وقت في المدينة، التي تعد موطناً وملاذاً، لا سيما أن إمارات الرخاء والغنى بدت على الكثيرين منهم، وأصبح السكن والسياحة والمطاعم والبارات في دمشق في متناول اليد لرخصها وهبوط العملة المحلية،  تكتشف ذلك ببساطة لقربهم منك ولسحنات وجوههم التي تغيرت وعلامات الغنى الظاهر على البعض منهم، أصدقاء قدامى وجدد في مقاهٍ عرفت تاريخياً من الصراعات والمحن والويلات والحروب السياسية على طاولات القهوة والشاي، أُسقطت حكومات وبنيت دول وأمم واخترعت نظريات للحياة والحب والمقاومة والمنفى والشعر والحداثة والموت.


حوار وجدل

المقهى (المكان الذي تقدم فيه القهوة أو المشروبات الأخرى) أتاح بشكل عام  لأبناء الطبقات الوسطى والفقيرة من المثقفين، الحضور والمشاركة في الحوار والجدل الثقافي والسياسي بحرية، وإن بدا ذلك للوهلة الأولى فرصة للتلاقي والتعارف واللهو، إلا أنه في وقت من الأوقات كان وسيلة متاحة وحيدة لتنشيط آليات الثقافة والفكر، من قبل شريحة اجتماعية واسعة، الأمر الذي أتاح لكثير من الفئات دوراً فاعلاً في الحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية، فهو في الغالب متسع لمثقفي الهامش الذين لا يمكنهم ارتياد الصالونات أو المقاهي المرتفعة الثمن، وهذا ما حول العديد من مثقفي دمشق من مقهى الهافانا إلى الروضة أو الكمال الذي يقع في وسط مدينة دمشق، بالقرب من ثانوية جودت الهاشمي، وقد كان الأدباء يترددون إلى هذا المقهى منذ مطلع عشرينيات القرن الماضي، وقد كان من رواده الشاعر العراقي أحمد صافي النجفي بعد خروجه من بغداد، وخليل مردم بيك وغيرهم، وربما امتدوا إلى مقهى الشرق الأوسط القريب من ساحة المرجة.


أنشطة متنوعة

بعد العام 2011 وتوقع البعض بانحسار الحالة الثقافية، ورواد المقاهي برزت بشكل مفاجئ، ربما ردة فعل على الأحداث الجارية آنذاك، وعلى النشاط الرسمي للمراكز الثقافية في المدينة، مجموعة من الأنشطة الثقافية التي احتضنتها مقاهي ومطاعم دمشق وسميت بالملتقيات كملتقى "أضواء المدينة" الذي أقيم في مطعم نينار في منطقة باب شرقي واستقطب على مدار سنواته الست بإدارة مثقفين روائيين وشعراء معروفين عدداً كبيراً من كتاب سوريا وشعرائها من الكبار والصغار، والذي أوقفه المشرفون عليه لاعتقادهم بأن مهمته قد انتهت، ولم يعد هناك من مبرر لاستمراره،  وكذلك ملتقى "يا مال الشام" الذي جاب العديد من مقاهي دمشق ومطاعمها وقدم أمسيات مهمة من الشعر والقصة والموسيقى إلى أن استقر به الحال في منطقة جرمانا بالقرب 

من دمشق، وكذلك ملتقى "كلمات" و"زرياب" وملتقى مهم ظهر لسنوات طويلة في فندق 

"فردوس تاور" وسط العاصمة يجمع نخب دمشق من شعراء وكتاب وفنانين وممثلين وغيرهم، ومعظم هؤلاء غادروا البلاد قسراً أو هرباً أو لجوءاً أو موتاً.


عالم الفن

إضافة إلى ذلك ظهرت العديد من المقاهي في دمشق القديمة، أو وسط المدينة، ذات الطابع الثقافي المختلف فهي لا تقدم الأمسيات لكنها تجمع نخباً من المهتمين الشباب، والداخلين لعالم الفن والأدب، ناهيك عن المقاهي التقليدية التي تنشط في رمضان وتضم في حناياها الحكواتي، كما غابت بعض المقاهي المهمة في دمشق كمقهى "الحجاز" الشعبي البسيط الذي هُدم وسيبنى مكانه مجمع تجاري، وأنشئت مقاهٍ عديدة في أمكنة راقية وأخرى شعبية تتناسب مع سوق المرحلة من عاطلين ومهاجرين أو من حديثي النعمة. 

المقاهي التي كانت تحتضن أسماء كبيرة كمظفر النواب وعادل أبو شنب وشوقي بغدادي وعلي الجندي وعبد الباسط الصوفي و محمد حيدر، وصلاح دهني وغيرهم في الهافانا أو محمد الماغوط في أبو شفيق أو مطعم الريس برواده أو القنديل بتجمعات الكتاب والمثقفين فيه أو الفريدي القريب من شارع العابد ومقهى ومطعم "قصر البلور" في باب توما، ومقهى ومطعم "اتحاد العمال" خلف سينما السفراء، كلها أماكن وأسماء ذهبت، بحكم الموت والمد الأصولي لقلب العاصمة الذي منع وجود المطاعم والبارات فيها.