صعود فرق الفتيات الافتراضية

بانوراما 2023/01/19
...

 {جولي يونينج لي} و{أميليا هيمفيل}

 ترجمة: مي اسماعيل 

منذ إطلاق أول أغنية لها بعنوان {أنا حقيقية} عام 2021، حصدت فرقة {إتيرنتي- Eternity} للفتيات ملايين المشاهدات عبر الإنترنت.. إنهن يغنين ويرقصن ويتفاعلن مع معجبيهم كما يفعل أي فريق غنائي آخر. في الحقيقة هناك فرق رئيسي واحد بينهن وبين أي فريق آخر لموسيقى البوب ممن قد نعرفه.. إن جميع عضوات الفريق (وعددهن إحدى عشرة) هن شخصيات افتراضية! إنهن لسن بشريات؛ بل تجسيدات واقعية للغاية منتجة عبر الذكاء الاصطناعي.

فرقة إتيرنتي  إحدى الفرق الفنية لموسيقى البوب الكورية الجنوبية (وتعرف اختصارا بمصطلح - K-pop).. تقول “بارك جيون”، المرأة التي تقف وراء فرقة إتيرنتي: “العمل الذي نقدمه في إتيرنتي عمل جديد، وأعتقد انه نمطٌ جديد. والفائدة التي نجنيها من الفنانين الافتراضيين هي أنه بينما يتعامل نجوم موسيقى البوب الكورية غالبا مع القيود الجسديّة أو حتى الكدر الفكري لأنهم بشر؛ يمكن للفنانين الافتراضيين التحرر من تلك القيود”. 

أصبحت الموجة الثقافيّة لموسيقى البوب الكورية الجنوبيّة قوة تُقدّر بمليارات الدولارات خلال العقد الماضي. بنغماتها الجذابة والإنتاج عالي التقنية وروتين الرقص المثير؛ انطلقت موسيقى الــــ “K-pop” في التيار العالمي السائد لتصبح واحدة من أكثر صادرات كوريا الجنوبيّة تأثيرا وأرباحاً. لكن كبار نجوم الــــ “K-pop” وجحافل معجبيهم المخلصين وأصحاب الأعمال المتطلعين للاستفادة من نجاحهم يتطلعون جميعا إلى المستقبل. ومع صعود الذكاء الاصطناعي (AI) وتقنيات التزييف العميق والأفاتار (= التمثيل الحاسوبي ثلاثي الأبعاد. المترجمة)، ارتقى ايقونات موسيقى البوب هؤلاء بشهرتهم إلى بُعد جديد تماما. 


شخصيات تنبض بالحياة

قالت “جيون” (المديرة التنفيذية للشركة) إنّه جرى استخدام تقنية “التعلّم العميق” لإنتاج وجوه الشخصيات الافتراضية لفريق إتيرنتي (التعلم العميق = أسلوب التعلم الآلي الذي يعلّم أجهزة الكمبيوتر أن تفعل ما ينفذه البشر بشكل طبيعي. المترجمة). أنتجت الشركة المُنفذة بدءًا نحو مئة وجه افتراضي، وقسمتها الى أربعة فئات وفقا لمفاتنها: لطيفة، مثيرة، بريئة وذكية. وطُلِبَ من المعجبين التصويت لصالح ما يُفضلون، ثم شرع المصممون بالعمل لتحريك ملامح الشخصيات الفائزة بالتصويت وفق ذوق الجمهور. أما عند الحاجة للدردشة الحية وتصوير أفلام الفيديو واللقاء المباشر مع المعجبين على الانترنت؛ فيجري إسقاط وجوه الآفاتار على شخصيات مطربين وممثلين وراقصين غير معروفي الهوية (متعاقدين مع الشركة المنفذة). 

تعمل التكنولوجيا مثل مرشح لتقنية التزييف العميق؛ مما يجعل الشخصيات تنبض بالحياة. وهو ما تصفه “جيون” قائلة: “يمكن للشخصيات الافتراضية أن تكون كاملة؛ لكن بإمكانها أيضا أن تكون أكثر إنسانيّة من الإنسان”. وبينما تنطلق تقنيات التزييف العميق الى تيار الأمور المتعارف عليها حياتيا؛ ظهرت مخاوف أنّه يمكن استخدامها للتلاعب بصور الأشخاص من دون إذن، أو توليد معلومات مضللة خطيرة.. أبلغت نساء عديدات عن استخدام صور وجوههن في أفلام إباحيَّة؛ كما جرى تداول صور التزييف العميق للرئيس الروسي بوتين والأوكراني زيلينسكي في مواقع التواصل الاجتماعي. تمضي جيون مؤكدة: “أحاول دائما أن أوضّح ان تلك الشخصيات خيالية”. تستخدم جيون والشركة المنتجة معايير المبادئ التوجيهية الأخلاقية للذكاء الاصطناعي الخاصة بالاتحاد الأوروبي عند إنشاء صورهم الافتراضيّة. كما ترى جيون منافع أخرى لفرق الشخصيات الافتراضية الغنائيّة؛ إذ يمكن السيطرة على كل فرد فيها من قبل صانعيهم؛ قائلة: “قد تكون الفضائح التي يصنعها أبطال فرق موسيقى البوب الحقيقون أمر مسلٍّ؛ لكنه يشكل أيضا مخاطر على عملها التجاري”. 

تعتقد جيون أنه بالإمكان توظيف تلك التقنيات الجديدة جيدا لتقليل المخاطر التي يتعرض لها فنانو الــــ “K-pop” الذين يعانون من الإجهاد والضغط وهم يحاولون مواكبة متطلبات تلك الصناعة. على مدار السنوات الماضية، تصدرت أخبار أولئك الفناني عناوين الصحف للعديد من القضايا الاجتماعية؛ من شائعات المواعدة إلى التصيد عبر الإنترنت والتشهير بالسمنة واتباع نظام غذائي شديد لأعضاء الفرق. كما أثار هذا التيار الفني أيضا جدلا حول الصحة العقلية والتنمر عبر الإنترنت في كوريا الجنوبية؛ بعد الموت المأساوي لعدد من نجوم K-pop الشباب؛ والذي يؤمن الكثيرون أنه كان له تأثير كبير على متابعيهم. في عام 2019 عُثر على المغنية والممثلة “سولي- Sulli” (25 عاما) ميتة في شقتها، بعدما أن أخذت استراحة من صناعة الترفيه، إثر تردد أنباء عن “معاناتها جسديا وذهنيا من شائعات خبيثة وغير صحيحة عنها”. كما عُثر بعد فترة وجيزة على صديقتها المقربة “كوو هارا- Goo Hara” (وهي فنانة K-pop أخرى) ميتة في منزلها بسيئول. كانت “هارا” قبل انتحارها بقليل تتحرك طلبا للعدالة بعد أن تم تصويرها سراً من قبل صديق لها، وتعرضت للتعسف الوحشي عبر الإنترنت من أجل ذلك. 


تهديد أم عون؟ 

بالنسبة للنجوم (البشريين) الذين يعملون على مدار الساعة تدريباً وأداءً وتفاعلا مع معجبيهم، يعد وجود عون “رقمي” في العالم الافتراضي نوعا من الراحة. “هان ييوون” (19 عاما) هي المغنية الرئيسية لفرقة الفتيات “ميني روز” التي أُطلقت حديثا، والتي تديرها شركة “يس آم انترتينمنت” في كوريا الجنوبية. أمضت ييوون أربع سنوات بموقع المتدربة، تنتظر فرصتها ليجري دفعها قُدما الى الأضواء؛ وواحدة من عدة مُرشَحات توجب خضوعهن لتقييم شهري؛ ليجري استبعاد اللواتي لم يُظهرن تقدما كافيا. لا يتحقق وصول الفتيات الى مرتبة نجوم البوب بين ليلة وضحاها؛ ومع ظهور فرق جديدة لأول مرة كل عام، يكون التميز أمرا صعبا. تقول ييوون: “شعرتُ بالقلق كثيرا بشأن عدم قدرتي على الانطلاق. كنت أذهب للعمل عند العاشرة صباحا، وأؤدي تمارين الاحماء الصوتي لنحو ساعة. وبعدها كنت أُغني ساعتين أو ثلاث وأرقص لثلاث أو أربع ساعات، ثم أتمرن (رياضيا) لساعتين. كنا نتدرب لأكثر من اثنتي عشرة ساعة؛ ولكن اذا لم نكن جيدين بما فيه الكافية كنا نستمر لوقت أطول”. 

ومع ذلك، فإنَّ احتمال ظهور شخصيات افتراضية تجتاح صناعة موسيقى البوب يقلق ييوون؛ التي تقول إنَّ المعجبين يقدرون أصالتها: “لأن التكنولوجيا تطورت كثيرا جدا مؤخرا؛ أشعر بالخوف أن تحتل الشخصيات الافتراضية مواقع النجوم البشريين”. لكن فرق بوب كورية أخرى سارعت الى تبني تقنيات التزييف الرقمي؛ ويُتوقع أن ينمو العمل بشكل مضطرد.. من المتوقع أن يصل حجم سوق التزييف الرقمي لتقديم شخصيات افتراضية بشرية الى نحو 528 مليار دولار عالميا بحلول سنة 2030؛ وفقا لتوقعات شركة “أيمرجين ريسيرج” الاستشارية لأبحاث السوق. تستثمر أربع من أكبر شركات الترفيه على الأقل ضمن صناعة K-pop بشكل كبير في عناصر افتراضية لنجومها، كما انضمت خمسة من فرق البوب الأعلى دخلا لعام 2022 إلى هذه المسار. يتيح استخدام النسخ الافتراضية لأشخاصهم لنجوم البوب بالوصول الى معجبيهم عبر المناطق الزمنيّة وحواجز اللغة؛ بطرق لا يستطيع الفنانون بلحمهم ودمهم القيام بها. فعلى سبيل المثال تتألف فرقة “آسبا” للفتيات من أربعة مغنيات وراقصات حقيقيات ونظيراتهن الافتراضية الأربعة. ويمكن للشخصيات الافتراضية استكشاف العالم الافتراضي مع المعجبين والظهور عبر منصات متعددة. أما فريق فتيات “بلاك بينك” الشهير فقد صنع التاريخ بمساعدة توأمه الافتراضي، وفاز بأول جائزة MTV على الإطلاق عام 2022 لأفضل أداء في فضاء “ميتافيرس- Metaverse” (= مساحة الواقع الافتراضي مع الواقع المعزز تسمح للمستخدمين بالتفاعل مع بيئة جرى إنشاؤها بواسطة الكمبيوتر ومستخدمين آخرين. المترجمة). 

تابع أكثر من 15 مليون شخص حول العالم منصة الألعاب الشهيرة على الإنترنت “بابجيم-PUBGM” العروض الرمزية للمجموعة في الوقت الفعلي. خلال جائحة كورونا اضطرت “موون سو” وفرقتها “بيللي” لإلغاء الأداء الحي ولقاءات المعجبين؛ وبدلا عنها صنعت الشركة المديرة للفرقة نسخا رقمية لأعضاء الفريق لتقيم حفلات للمعجبين في العالم الافتراضي. ورغم إعجابها بصورة النسخ الافتراضية؛ تُفضّل “سو” اللقاء بالمعجبين شخصيا؛ قائلة: “لا أعتقد ان هناك تهديدا في الأمر؛ ولعلنا نتعلم بعض المهارات منهم”. 


الوقت مبكر للحكم

لكن هناك مخاوف في الإطار الأوسع لصناعة موسيقى البوب حول القضايا الأخلاقية وحقوق التأليف والنشر التي يمكن أن تشكلها تقنيات التزييف العميق. يقول “جيف بنجامين” (كاتب عمود عن البوب): “هناك الكثير من الأشياء المجهولة عندما يتعلق الأمر بنسخ الفنانين الافتراضية؛ التي باتت أيقونات بحد ذاتها؛ كيفما  كانت. ولعل الفنانين انفسهم قد لا يستطيعون السيطرة على صورهم؛ مما قد يخلق حالات استغلالية. ولكن، وكما هو الحال في أي صناعة ترفيه؛ هناك الكثير من الضغوط. ومن المتوقع من الفنانين ان يظهروا دائما بصورة جيدة ويكونوا مثالا لامعا لمعجبيهم”. 

في صناعة موسيقى البوب سريعة التغير، قد يكون من السابق لأوانه القول ما اذا كان النجوم الرقميون موضة قصيرة المدى أو مستقبل صناعة الموسيقى. ولكن في الوقت الحالي، وبالنسبة للمعجبين؛ فإن اختيار من يجب متابعتهم أمر سهل.. تقول إحدى المعجبات: “ الأشخاص الذين يحبون النجوم الافتراضيين والأشخاص الذين يحبون النجوم الحقيقيين مختلفون تماما؛ وبالنسبة لهؤلاء يصعب الوقوع في حب الصور على حساب النجوم البشريين..”. 

موقع بي بي سي البريطانيية