آدم نوسيتر ترجمة: خالد قاسم
قبل اعلانه تقديم الاستقالة بحلول نهاية شهر نيسان الحالي،
يمضي رئيس الجزائر عبد العزيز بو تفليقة وقته معزولاً داخل فيلا شديدة الحراسة فوق مستوى سطح البحر بكثير، ويجلس على كرسي متحرك، صامتاً ومشلولاً بالكاد يحرك يديه، ويحيط به جمع من المساعدين
وأفراد العائلة، لكنه لم ينبس ببنت شفة على الملأ منذ اصابته
بجلطة في العام 2013.
يملأ عشرات آلاف الجزائريين شوارع العاصمة على مسافة 30 كم من مقر اقامة الرئيس، وكانوا يطالبون اسبوعياً بتنحي الرئيس عن منصبه وخروج كل الحاشية الواسعة وغير المحددة المحيطة به والتي يسميها الجزائريون ببساطة “السلطة” أي مجموعة كبار المسؤولين ورجال الأعمال الأثرياء وقادة الجيش الذين يديرون البلاد فعلياً.
ثم اتسعت التظاهرات، التي تعد هي الأكبر منذ 30 سنة، كل أسبوع ويبدو أنها لن تتوقف، رغم اعلان الرئيس قراره الأخير. ومن المعلوم أن الجزائر أكبر دولة أفريقية ودعامة نادرة للاستقرار في العالم العربي، لكنها تواجه مستقبلاً مجهولاً. وكانت مطالب المحتجين واضحة، هي أنه وبعد عشرين عاماً من الحكم يجب تنحي الرئيس وجماعته والنظام بأكمله.
ومع إنه يبدو من غير الواضح ما الذي سيحدث بعد قرار الرئيس التنحي، لكن الشعور بالتغيير المحتوم يكتسح البلاد. وانتشرت التظاهرات على امتداد مختلف مناطق الجزائر وبين كل طبقات المجتمع، بدءاً من المصرفيين الى الخبازين وسائقي الشاحنات والمدرسين والطلبة والعمال.
ورغم وصف الحكومة لعرض بو تفليقة سابقاً بعدم ترشحه لفترة خامسة بأنه تنازل كبير، لكنه قوبل برفض قاطع من المحتجين لأنه كان أقل من مطلبهم بتنحيه فوراً، ولأنه سيبقى على سدة الحكم إلى أجل غير معلوم.
ثم ظهرت الحكومة والقوات الأمنية وسط موقف حرج، اذ قال مسؤولوها أنهم يستبعدون اطلاق النار على المحتجين، ومع ازدياد أعدادهم فإن أي رد فعل عنيف قد يعطي نتائج عكسية.
الحاجز الأخير
يبقى من الصعب تصور رضوخ الحكومة لبقية مطالب المحتجين، لكن ظهرت اشارات ايجابية على قبول ضمني في أقل تقدير؛ فوسائل الاعلام الرسمية التي منعت سابقاً من تغطية التظاهرات بدأت بتقديم الأخبار عنها. وانضم حزب جبهة التحرير الوطني الحاكم والجيش الى الأطراف المؤيدة للمتظاهرين، اذ أشاد رئيس الأركان “بشعورهم منقطع النظير بالمسؤولية المدنية”، فيما أعلن عن إقالة رئيس هيئة المخابرات الجزائري من منصبه.
نظر حلفاء الجزائر على جانبي الأطلسي اليها طيلة عشرات السنين بأنها حصن أمام تهديد التطرف الاسلامي الإقليمي. وبعد سحق الجيش للتمرد المتطرف المرتبط بقواعد التنظيمات السلفية خلال التسعينيات اختارت قيادته عبد العزيز بو تفليقة رئيساً للجزائر، وهو وزير خارجية أسبق تعود جذوره السياسية الى السنوات الأولى لاستقلال البلاد. وقد رحّب الجزائريون بنهاية عقد من النزاع ووافقوا على الرئيس، وهو إجراء كان سهلاً بسبب زيادة تدفق ايرادات النفط مطلع القرن الحالي وما جلبته من منافع اجتماعية سخية.
وبحلول العام 2011 نجت الجزائر من الربيع العربي، وسخر قادتها من التظاهرات المؤيدة للديمقراطية في الدول المجاورة مع أنهم أغلقوا بلادهم بوجه العالم الخارجي، ولم يظهر وجود للسياح هناك، أما قلب العاصمة فيخلو من العلامات التجارية العالمية.
اتصف بو تفليقة بالعزلة أيضاً، اذ قال صحافيون وسياسيون أنه لم يجر أية مقابلة مع وسائل اعلام بلاده منذ توليه السلطة. واختفى جسدياً أيضاً منذ اصابته بجلطة، وحلت مكانه أمام الجمهور صورته المؤطرة المعروفة باسم “الإطار”.
لم يشتك كثيرون من ذلك الوضع، لأن برامج الأشغال العامة الكبيرة والقروض المجانية للشباب الممولة من ثروة النفط والغاز أبقت المواطنين مقتنعين وهادئين. فيذكر عضو رفيع المستوى في التحالف الحاكم، تحدث بشرط عدم الكشف عن هويته، أن نظام بو تفليقة بني على أساس الفساد والمحسوبية، ومع ارتفاع أسعار النفط “تدفقت الأموال مثل الماء، وظهر فساد عبر المناقصات والقروض الميسرة، واغتنى أشخاص من المال العام.” لكن العام 2014 حمل مشكلة انخفاض أسعار النفط والغاز وتراجعها الى ارقام هزيلة، علما أنها تمثل 97 بالمئة من صادرات البلاد. وارتفعت البطالة بين الشباب لأن الحكومة خفضت المنافع الاجتماعية. يصر المواطنون البسطاء على عدم العودة للوراء، ويعيش هؤلاء خلف شوارع قذرة وسط المدينة، حيث تتساقط قطع كبيرة من الجص عن البنايات المشيدة وفق الطراز الفرنسي القديم، ويلتقون عند المقاهي العتيقة التي ازدادت كآبة بعد خمس سنوات من تقلب أسعار النفط.
تغيير النظام
كان المطلب الجوهري للمحتجين هو تنحي نظام بو تفليقة بأكمله، لكن تلبية ذلك تعد صعبة جداً، كما يقول محللون ومطلعون على الشأن الحكومي. لأن “النظام” أوسع من بو تفليقة وحاشيته، ويتطلب اسقاطه تطهير شبكة واسعة من الفساد الشامل لآلاف الأشخاص والراسخ منذ سنوات.
يسود القلق والحيرة داخل المباني الحكومية الرخامية العملاقة المبنية من أموال النفط. ويؤكد مسؤولون أن قوى خفية تحميهم بعد شعورهم بالصدمة من حجم التظاهرات. ويقول هؤلاء أن سياسيي المعارضة وكذلك الاسلاميين بمختلف توجهاتهم ركبوا موجة الاحتجاجات، على الرغم من عدم وجود أدلة كافية على ذلك. ويشعر المسؤولون بالارتباك بسبب غياب قادة بين المحتجين، والرفض الكلي لعروض الحكومة.
القضية المهمة الأخرى هي من يتولى الحكم فعلياً ومن لديه سلطة التفاوض مع المحتجين. ويقال أن بو تفليقة بالكاد يقدر على الكلام، مع أن مسؤولين كباراً وأصدقاء كانوا يؤكدون على تمكنه من اعطاء التوجيهات.
الثورة لديها مكانة عزيزة في ذاكرة الجزائريين، والنصر على فرنسا قبل 60 سنة تقريباً محفوظ كفخر وطني. كانت البلاد قبل نهاية القرن العشرين انموذجاً أصلياً عالمياً عن ثورات العالم الثالث ونقطة انطلاق ثوار مثل المؤتمر الوطني الأفريقي وحزب الفهود السود.
تراقب فرنسا الأحداث بقلق من وراء البحر المتوسط، وهي موطن الملايين من الجزائريين، وبدأت تفكر بالفعل بامكانية وصول قوارب مكتظة بمهاجرين شباب يحاولون اجتياز رحلة محفوفة بالمخاطر. أما المحتجون فيقولون أن الانتفاض ضد القمع هو تقليد وطني مقدس.