أ. د. حيدر وهاب عبود العنزي
لا يخفى على أحد أن الدولة العراقية عانت ولما تزل من مشكلة مالية مزمنة قوامها التأخر السنوي في إقرار الموازنة العامة الاتحادية وعدم إصدار قانونها قبل بداية السنة المالية. وقد ازدادت المشكلة حدة في السنة الماضية التي انصرمت شهورها دون أن تنجح السلطتان التنفيذية والتشريعية في تأدية الواجب الدستوري المكلفتان به، المتمثل بإعداد مشروع قانون الموازنة العامة وإقراره، مما شهد غيابا تاما للموازنة مثلما حصل سنتي 2014 و2020.
إنّ تأخر إقرار الموازنة أو عدم صدورها أصلا يولد آثارا سلبية متعددة لعل من أهمها تعطل المشاريع الإستثمارية وشلل المراكز القانونية الوظيفية مثل التعيين والنقل وتوقف العلاوات والترفيعات واحتساب الخدمات.
ومن أجل تلافي تلك الآثار السلبية وحصرها في أضيق نطاق ممكن فقد دأبت الكثير من الدول على إيجاد حلول قانونية بديلة، لضمان تمشية المعاملات المالية التي تتطلب صرف نفقات جارية مثل الرواتب والأجور والوفاء بالديون واستكمال المشاريع الإستثمارية، التي بدأ العمل بها في أوقات سابقة وتمثلت تلك الحلول باعتماد الموازنات المؤقتة التي يعمل بها شهريا ريثما يتم إقرار الموازنة العامة.
وقد تبنى هذا الحل المشرع العراقي في المادة ( 13 / أولا ) من قانون الإدارة المالية الاتحادية المعدل النافذ رقم: ( 6) لسنة 2019.
واستنادا لذلك أصدرت وزارة المالية الاتحادية اعماما ذي الرقم: ( 75555 ) بتأريخ 27 / 12 / 2022 خولت بموجبه الوزارات والجهات غير المرتبطة بوزارة والمحافظات كافة صلاحية الصرف خلال شهر كانون الثاني لسنة 2023 بنسبة ( 1 /12 ) فما دون من إجمالي المصروفات الفعلية للنفقات الجارية للسنة المالية السابقة، ولحين المصادقة على مشروع قانون الموازنة العامة الاتحادية لعام 2023.
لقد أثار الاعمام المذكور جدلا في أوساط بعض المختصين في الشؤون القانونية والاقتصادية الذين ذهبوا في وسائل التواصل الاجتماعي إلى نقد مسلك وزارة المالية وشككوا في مشروعية العمل بالموازنات الشهرية في بداية السنة المالية الحالية 2023 في ظل عدم إقرار موازنة السنة المالية المنصرمة ( موازنة 2022 ).
أي أنهم رهنوا العمل بالموازنات الشهرية بوجود موازنة في السنة الماضية، وبخلاف ذلك فلا مجال للعمل بتلك الموازنات، لأنها وضعت لمواجهة حالة التأخر في إقرار الموازنة العامة وليس في حالة عدم إقرارها أصلا.
عليه فإن ما ورد في قانون الإدارة المالية النافذ لا يسعف وزارة المالية في الإرتكان إلى الموازنات الشهرية، بل يتطلب ذلك تدخلا تشريعيا يجيز العمل بتلك الموازنات للسنة المالية الحالية بالاستناد إلى موازنة 2021 لوجود فراغ تشريعي موازناتي في السنة المالية 2022 كي يستمر نشاط الدولة ويسير سيرا مطردا، وهذا ما يتفق مع الأصول المرعية في التفسير التي تذهب إلى أن القوانين المالية ينبغي أن تفسر تفسيرا ضيقا حفاظا على مصلحة الخزينة العامة.
لكننا نرى أن ما ذهبت إليه وزارة المالية في اعتماد الموازنات الشهرية يتفق مع صحيح أحكام القانون للأسباب الآتية:
1 – إن المشرع العراقي في قانون الإدارة المالية النافذ لسنة 2019 لم يرهن العمل بالموازنات الشهرية على وجود موازنة عامة في السنة المالية المنتهية، فنص المادة ( 13 / أولا ) من القانون المذكور جاء على النحو الآتي : (---- يصدر وزير المالية اعماما وفق الآتي : الصرف بنسبة ( 1 / 12 / أثني عشر ) فما دون من إجمالي المصروفات الفعلية للنفقات الجارية للسنة المالية السابقة بعد استبعاد المصروفات غير المتكررة على أساس شهري ولحين المصادقة على الموازنة العامة الاتحادية ).
وواضح من النص المذكور آنفا أن الاستعانة بالموازنات الشهرية لا تعتمد على وجود موازنة قديمة معمول بها في السنة الماضية، لأن الموازنات ببساطة لا تضم مصروفات فعلية أو نهائية، بل تنطوي على أرقام تخمينية أو تقديرية ولو أراد المشرع الربط بين الموازنات الشهرية والموازنة القديمة، فإن الصرف لا يكون من اجمالي المصروفات الفعلية بل في حدود الاعتمادات المجازة في قانون الموازنة القديمة، وهذا مسلك تشريعي مستقر ومعمول به في القوانين المقارنة مثل القانون المالي العماني النافذ رقم ( 47) لسنة 1998 الذي نص في مادته ( 27 ) بأنه : (إذا لم يصدر المرسوم السلطاني بالتصديق على الميزانية العامة قبل بداية السنة المالية، يكون الصرف في حدود الإعتمادات المدرجة بميزانية السنة المالية المنقضية وذلك إلى حين صدور المرسوم ------ ).
وكذلك بشأن الموازنة العامة للدولة المصري النافذ رقم ( 53 ) لسنة 1973 الذي نص في مادته ( 17) بأنه ( إذا لم يصدر قانون الموازنة العامة قبل بدء السنة المالية يتم الصرف في حدود إعتمادات موازنة السنة المالية السابقة إلى حين اعتمادها ).
بناء على التفسير المذكور في أعلاه لنص المادة ( 13 / أولا ) من قانون الإدارة المالية النافذ، فإنه يجوز لوزارة المالية الاتحادية اعتماد الموازنات الشهرية، استنادا للإنفاق المتحقق فعلا في آخر سنة مالية منقضية بغض النظر عن مصدر هذا الإنفاق وأداته القانونية سواء أكان موازنة عامة أم موازنة شهرية أم برامج مالية بديلة عن الموازنة العامة مثل قانون الدعم الطارئ والأمن الغذائي، لأن النص الوارد في المادة ( 13 / 1) بخصوص المصروفات الفعلية، جاء مطلقا والمطلق يجري على إطلاقه إذا لم يقم دليل التقييد نصا أو دلالة.
2 – إن التفسير المتقدم ينسجم مع ما تستلزمه حالة التأخر في إقرار الموازنة العامة من بساطة في الإجراءات والسرعة في اتخاذ القرارات المتعلقة بالإنفاق الحكومي، لتأمين متطلبات المعيشة للمواطنين والاستمرار بتقديم الخدمات، التي لا تحتمل التأجيل أو انتظار تدخل المشرع، الذي تتسم اجراءاته في الغالب بالبطء والتوقف بسبب العطلات التشريعية أو المناكفات السياسية أو غيرها.
3 – إن الربط بين الموازنات الشهرية التي سيعمل بها في سنة 2023 وموازنة سنة 2021 بحجة عدم وجود موازنة للسنة المالية 2022 سيباعد الفجوة الزمنية، ويُفقد بالتالي المصروفات قدرتها على تلبية الاحتياجات اختلاف الظروف الاقتصادية والاجتماعية وتغيرها. فضلا عن ذلك فإن الربط بين الموازنات الشهرية وموازنة السنة الماضية لا يقوم على منطق سليم، لأن الموازنات الشهرية ليست موازنات في حقيقتها لكونها لا تضم جانبي النفقات والإيرادات كما هو متعارف عليه في الموازنات الاعتيادية، بل هي مجرد إجازة إدارية ( وليست تشريعية ) لصرف نفقات مستعجلة وضرورية، فالأقرب للمنطق اذن أن يتم ربطها بالمصروفات الفعلية لا بالموازنات العامة، وهذا ما فعله المشرّع العراقي في قانون الإدارة المالية
النافذ.