حمامة السلام اليابانيَّة تعانق أحفاد الساموراي

آراء 2023/01/25
...

 سناء الوادي 


سكن طويلا ذلك الجيش الذي أرعب العالم وارتكب أفظع المجازر في دول الجوار التي احتلّهاـ فكان له سجلٌ استعماري دامٍ، حفر جروحاً عميقة في ذاكرة آسيا لم يمحها تراب الزمن، حتى أنه كبّد الولايات المتحدة الأميركية في الحرب العالمية الثانية خسائر كبيرة في العتاد والأرواح، فتفوق عليها وكاد أن يلحق بها هزيمة نكراء، لولا أنها وجهت ضربتين نوويتين في صدر الساموراي ( هيروشيما وناغازاكي ) أفقدتاه الوعي ودخل في غيبوبة منذ عام 1945م إثر توقيعه وثيقة الاستسلام وخضوعه لحكم أميركا لسبع سنوات بعد ذلك

 

لكنّ جروح المقاتل الشرس ظلت نازفة لفترة طويلة فقطع عهداً أن يسلك درب المحبة والسلام وأن ينأى بنفسه عن الصراعات والحروب، فالثمن الذي دفعه كان باهظاً، ونُصّ عليه في المادة التاسعة من دستور البلاد واعتبارها دولة دفاعية فقط، وفعلاً منذ ذلك الحين دأبت على تطوير الصناعات بكل أنواعها وبرعت في الاليكترونية بشكل خاص، حتى صارت علامة “صنع في اليابان” ماركة منافسة، ومضت قدماً في مناحي الحياة الثقافية والاجتماعية والتنظيمية فاستحقت لقب كوكب الشمس المشرقة بجدارة.

كلُّ شيء في اليابان استثنائي ودقيق فهي اليوم تتمتع بقاعدة صناعية قوية جعلت منها الاقتصاد الثالث عالمياً بميزانية سنوية تتجاوز خمسة تريليونات دولار، وهو مبلغ ضخم إذا ما قورن بتعداد السكان البالغ 125 مليون نسمة، وبالرغم من كل هذا الرغد الاقتصادي، فقد ظل جيشها يرزح تحت مسمى قوات الدفاع الذاتي وخصص له من الميزانية العامة ما مقداره 1 % فقط.

طوال تلك العقود السبعة لم تخض حرباً أو تدخل نزاعاً، رغم توتر العلاقات السياسية بعض الأحيان مع جيرانها إثر خلافات على ملكية بعض الجُزر كتلك التي تستولي عليها لروسيا (جزر الكوريل)، فلاهي تسترجعها منها ولاهي توقع اتفاق سلام دائم مع موسكو، وعلى الطرف الآخر هناك الجزر المتنازع عليها مع الصين في البحر الشرقي والخاضعة حالياً لسيطرة طوكيو والتي أممتها عام 2012م مما أدى لاشتعال التوتر بين الجارتين والرجوع بالذاكرة للماضي المؤلم، ناهيك عن جارتها النووية الكورية الشمالية، التي تشكل تهديداً مستمرّاً على مدى الأعوام الماضية، فهي لم تثن جهداً لإظهار قوتها وإرسال صواريخها في سماء طوكيو بين الفينة 

والأخرى.

ضمن هذا السياق وبين الشدّ والجذب حافظت بالسياسة مع الجيران الآسيويين على شعرة معاوية وأبقت جيشها كامناً كالنار تحت الرماد، بيدَ أنّه وبصفته قوة للدفاع الذاتي لم يمنع تمركزه كخامس أقوى جيوش العالم، ووفقاً لقراءتها للمشهد العالمي، كان لا بدّ من إعادة ضبط السياسة العسكرية، فبدأت بصمت العمل على تطوير ترسانتها الدفاعية بل وشرعت بامتلاك أسلحة الهجوم المضاد، مدركةً تنامي النفوذ الصيني المتسارع فحسب تقرير لرويترز يؤكد أن طوكيو حددت في الكتاب الأبيض للدفاع الصادر عام 2019م الصين كهدف وخصم، وهو ما يعتقده البعض الدافع لانضمامها لحلف كواد إلى جانب الهند وأستراليا وأميركا، ناهيك عما حملته حرب روسيا وأوكرانيا المشتعلة من متغيرات أفرزت إلى الواجهة رغبة ملحة عند التنين بضم تايوان له سلمياً كان أم عسكرياً، إضافةً للهشاشة الواضحة للموقف الأميركي الذي تعهد سابقاً بالدفاع عن أوكرانيا لكنّه في الحقيقة كان لاستنزاف إمكانيات الدب الروسي وإضعافه على المدى الطويل، وما أثبتته الوقائع عجز أميركا وأوروبا عن إيقاف آلة الحرب الروسية والتي بدورها أنهكت قواهم وخلخلت صفوفهم.

كل ما سبق ذكره يُقلق مَنْ يعوّل على واشنطن بحمايته، فالأخيرة تحشّد الحلفاء والداعمين وتحضّر المسرح العالمي لحرب كونية ثالثة تدافع فيها وبشراسة عن هيمنة القطب الأحادي، لذلك نرى ترحيبها بعودة أحفاد الساموراي بقوة كذراع تضرب به وقت ما تشاء كلّ من يهدد مصالحها في شرق آسيا والمحيط الهادئ.

انطلاقاً من ذلك فقد أعلن في منتصف الشهر الأخير من العام المنصرم رئيس الوزراء الياباني فوميو كاشيدا ستراتيجية جديدة تغير العقيدة الدفاعية إلى شن ضربات مضادة وامتلاك أسلحة رادعة متطورة، ومن هنا كانت التحركات المكوكية لرئيس الحكومة بالسعي لإلغاء تلك المادة التاسعة من الدستور ورفع ميزانية الجيش إلى 2% بإجمالية 320 مليار دولار على مدى خمس سنوات، وبدأ بعقد صفقات التسليح لشراء صواريخ باليستية عابرة للقارات، فتعاقد مع أميركا على ألف صاروخ توماهوك بمدى 1600كم ومن المتوقع في العام 2030م أن تكون لديها الفرط صوتية بمدى 2000كم وفي عام 2035م تلك بمدى 3000كم التي تصل لأجزاء من الصين، ووقعت اتفاقية عسكرية مع بريطانيا، كأول دولة أوروبية تسمح بنشر القوات بين البلدين وتسهيل نقل الذخيرة والتدريبات المشتركة وذلك بعد تعاونهما مع إيطاليا لتطوير مقاتلات نفاثة تخدم الذكاء الصناعي.

إن استشعار اليابان لتحدٍ ستراتيجي غير مسبوق لأمنها القومي أيقظ فيها روح القتال، فماذا لو سيطرت الصين على تايوان ومضيقها الحيوي وعززت سلطتها في المحيط الهادئ شريان التجارة الحيوي لطوكيو، وماذا لو كانت جزر أوكيناوا قاعدة القوات الأميركية في اليابان هدفاً لضربات الصين، وماذا لو كانت الغلبة لروسيا في الحرب الحالية، وماذا عن شريكتها الداعمة كوريا الشمالية، هل ستقف بلاد الساموراي عاجزة أمام أعتى الجيوش العسكرية والسيبرانية؟

إجابة هذه التساؤلات يتضح من دفع العلاقات اليابانية مع حلفائها لأفق جديدة وقيام رئيس الوزراء بجولة أوروبية، ومن ثَمّ ذهابه إلى واشنطن منذ أيام بوصف بلاده رئيسة مجموعة السبع الكبرى للعام 2023م، العالم يقف على صفيح ساخن والكل يترقب.