عمر الناصر
من منا لم يسمع بـ{التاتا» التي هي من مخلفات غزو الكويت، ومن منا لم تسنح له فرصة الجلوس على «قنبورة» محركها ولم تلسعه حرارته، او يصيبه صداع وضجيج زحامها، وفتح أبوابها في أكثر أيام الصيف قساوة، ومن منا لم يزر الخياطين من أجل قلب بنطلونه البالة الكالح اللون على البطانة في أحلك أيام الحصار الاقتصادي، ومن منا لم يسعده حظ استعارة قميص أحد اصدقائه، ليذهب به إلى لقاء عاطفي أو حتى لفرصة مقابلة للحصول على عمل، ومن منا لم يتذوق حلاوة «المدگوگة» التي حلت محل استعمال مادة السكر، عندما اعدم النظام السابق كبار تجار الشورجة بعد عام ١٩٩٣، او لم يتذوق طعم نوى التمر المطحون مع علب الكارتون ليكون أحد عناصر طحين الحصة التموينية، حتى انتهى الامر بالكثير منا لبيع أبواب وشبابيك البيوت والاستعاضة عنها بالنايلون أو الچينكو، من اجل مصارعة ضنك العيش، وعلى هذه الشاكلة لنا من المواقف مالا تعد ولا تحصى.
فمن حالفه الحظ وسنحت له فرصة الهروب من بطش وقسوة النظام السابق، فقد اصطدم بواقع المعاناة من مرارة الغربة وفقد الأهل والأحبة، لكن بالمقابل كان قد بذر نواة لتأسيس حياة جديدة داخل مجتمعات أوروبية نظيفة ونقية تؤمن بقيمة الانسان وحرية الأديان، وضمان العيش الكريم والحفاظ على الكرامة، ومن لم يحالفه الحظ، فقد بقيّ في العراق، وذاق ذل ومرارة المتابعة والاعتقالات والمضايقات والجوع والمقابر الجماعية والخوف من المجهول والاضطهاد، حتى تولدت لدينا عقد نفسية واجتماعية ستتوارثها عنا الأجيال القادمة، لكن يبدو أن مقولة الإمام علي بن أبي طالب ( ع ) «الدهر يومان يوم لك ويوم عليك»، قد تجلت فعلياً على ما مرَّ بنا من كوابيس مزمنة، ستبقى تلاحقنا حتى بعد أن توارى أرواحنا الثرى.
يقال إن الكثير من العراقيين أصبحت لديهم ذاكرة سمكة، وصعب أن يسترجعوا ذكريات وألم الماضي التليد، خصوصاً أولئك الذين تسنم البعض منهم مناصب حكومية رفيعة المستوى، ما عادوا يتذكرون أحداثا تراجيدية أحدثت ثقوباً نفسية سوداء داخل أعماقهم، ولم يعد يتذكرون أوقات جلوسهم على «قنبورة التاتا» بأحذيتهم المتهرئة ورجوعهم في أغلب الأحيان لمنازلهم، وهم لايمتلكون ثمن العودة، بل الأغلب منهم يتناسى، ولا يتذكر دفتر الديون الذي لم يسلم بيت عراقي من شبح اقتراب نهاية الشهر، الذي كان يمر عليهم أسرع من البرق، لأننا نجد اليوم الكثير منهم قد ابتسم لهم «دشبول الجكسارة»، وركبوا موجة الدفاع عن مظلومية المكوّن والمغيبين وحقوق الفقراء والمساكين، التي أصبحت هي أفضل ورقة يلعب عليها الانتهازيون والوصوليون.
البدء بالتثقيف لمفهوم القناعة باعتزال العمل السياسي المعمول به في جميع الدول الديموقراطية هي حالة صحية بلا شك، لإتاحة الفرصة للذهاب لضخ دماء جديدة، بدلاً من الكثير من الموجودة في الساحة السياسية، لأن العمر الافتراضي للأداء السياسي يقع في ثلاث ستراتيجيات خمسية، تبدأ من الستراتيجية القريبة المدى، التي يكون دورها التخطيط والمتابعة، وستراتيجية متوسطة المدى، وهي مرحلة التنفيذ ودك ركائز الأهداف الخرسانية الموحدة، وتنتهي بستراتيجية بعيدة المدى وهي مرحلة حصد الثمار سلباً أو ايجاباً، لتكون لدينا 15 عشر سنة تكون هي ذروة العطاء السياسي للطبقة السياسية، التي رأينا اليوم بأن هذة المدة قد انتهت دون وجود هدف نوعي وحقيقي يخرج بنية النظام السياسي من المحاصصة الطائفية إلى بناء دولة المؤسسات، التي يكون ولاء المواطن فيها آنذاك للدولة وليس للأشخاص.