رعد أطياف
كلُّ شيء يمكن الإفصاح عنه إلا هذا الأرشيف النفسي المؤلم المسكوت عنه. مكانه الوحيد هو الأعماق النفسية المؤلمة. ولولا فضائح زلّة اللسان، ومصائد ردود الأفعال، واللوحات المجانية التي ترتسم على ملامحنا الحزينة، لظل الأمر طيّ الكتمان، أو يبقى مسكوتاً عنه حتى إشعار آخر، وهذا الأخير مشكوك فيه جداً. ولكي تبقى سمومنا الذهنية ضمن الملفات السرية، يتنازع الإنسان في أعماقه ويفجر معارك ذهنية كبرى، فعندما يضطرب الذهن، على سبيل المثال، لا يبحث عن مصادر سكينته، بل يبحث عن اهم النقاط المرجعية التي تعزز من جنونه! سيبحث في رفوف ذاكرته عن كل لحظة مجنونة جرت في الماضي ليضمن ديمومة هذا الجنون وإطالة أمد جرحه النازف. أمراضنا المألوفة والشائعة والتي جرى تصنيفها ونالت من الشهرة ما يكفي، وحدها من تتوفر على أطباء ومستشفيات. يمكنك أن تداويها بعقاقير متوفرة، لكن أين يذهب الشخص الذي يفترسه الغل، وتنهشه الضغائن، ويفقد وعيه الحسد والكراهية؟ في كثير من الأحيان نشن مجازر مهولة على انفسنا لإراحة ضميرنا ضد من نكره: نصطنع سلسلة من الأحكام المزيفة والمسمومة، لكي نقنع أنفسنا بحقيقة تلك الأحكام. نبحث فيهم عن أخس الصفات، ونبحث فينا عن اقوى التبريرات، ليغدو عملنا الرذيل مشروعاً وموضوعياً ومنصفاً! سلسلة من التبريرات والإيحاءات الكاذبة لكي نشرعن هلوساتنا ضد من نضعهم في خانة المكروهين. نستنزف ثلاثة أرباع ارواحنا ليس لشيء سوى الحفاظ على ديمومة هذا السم الزعاف. ما أن «نختلف» مع احدهم حتى يغدو كل شيء فيه رجيماً، كما لو أننا تعرضنا لمس شيطاني. لا نستطيع رؤية مكامن الجمال فيه. يجري في أوصالنا مجرى السم الزعاف. ثمة حاجز كثيف وأحكام مبهمة تحول بيننا وبين سماته الخيرة. لا نرى فيه إلا حساسيتنا النفسية السامة، وأحوالنا الذهنية المضطربة. أنه يقلب مواجع النفس، ويسقطنا في عتمتها السحيقة. كل هذا يحدث لأنه تكلم بالضد من كتابنا المقدس، أعني به عاداتنا العزيزة على قلوبنا المُعَذَّبَة. وسط هذه السموم النفسية المؤلمة، التي تؤذينا قبل أن تؤذي غيرنا، تغيب المكاشفة وينعدم الوضوح تمامًا، ذلك أن البوح في مثل هذه المواضيع يرتبط ارتباطاً مباشراً بكرامتنا الشخصية. بتعبير آخر، أنه يرتبط جوهرياً بتلك الشريعة المقدسة التي نسجتها ربوبية الأنا، ذلك أن هذه الأخيرة لا تضحي بـ “وجودها”، إذ كل شيء مرتبط بوجودها؛ السموم النفسية، والعادات المتأصّلة، والغموض المُتَعَمَّد، علف مهم يشبع نهم الأنا. فحتى ذلك الحين يبقى هذا الملف قيد السرّانية مثله مثل الكثير من الملفات.