باسم عبد الحميد حمودي
في كتابه النقدي التحليلي الجديد الصادر حديثاً تحت عنوان (ذلك من تأويله) يدرس الدكتور علي حداد النصَّ المدون شعراً ونثراً، دراسة تأويليَّة جديدة، مقترحاً (التعليق) تسمية جديدة وتمظهراً نقدياً جاداً وجديداً على النصّ المدون والشفاهي بدلاً من الاستدراك والمونتاج الشفاهي والمكتوب.
وهو يبرهن هنا على حسن اختياره هذه التسمية بعرض سلسلة نصوص شعريَّة ونثريَّة قديمة وحديثة لإثبات فاعليَّة هذا المصطلح من خلال ما تمَّ عرضه من مادة إبداعيَّة جرت فيها عمليات التحويل والاستطراد والقطع والإضافة من جريانٍ إبداعي الى جريانٍ إبداعي آخر عبر النص المدون أو الشفاهي.
ويبدو جلياً أنَّ الباحث قد تفحَّصَ الكثيرَ من النصوص الإبداعيَّة والدراسات والكتب النقديَّة قديمها وحديثها، ليصل الى هذه القناعة في إثبات هذا المصطلح الجديد (التعليق) بوصفه منطلق إغناءٍ نقدي وبلاغي جديد يمكن تكريسه كبديلٍ موضوعي لمصطلحات سالفة في التدارك وانعطاف النص أو تحويله من مسارٍ الى آخر ثم العودة بعد ذلك الى السياق الإبداعي الأول.
كان مما قاد الباحث الى اجتراح هذا المصطلح قراءة متفحصة لقصيدة (أنشودة المطر) حيث يستدرك السياب من سياقٍ إبداعي الى آخر ومن ضفة نصيَّة الى أخرى مما كان يسميه بعض النقاد القدامى بـ (الالتفات)، لكنَّ الدكتور حداد وجدَ في الالتفات مصطلحاً قاصراً، وأنَّ مصطلح (التعليق) أشمل منه بكل أنواعه التي اقترحها.
والتعليق عند الباحث يحدده مختصراً بالنص التالي (ص43): ((هو ما يحصل في النص من انتقالات أو تبدلات على مستوى الرؤية وسياق الدلالة، أو على مستوى التشكيل الفني في وجهته وتكويناته- لغة وصورة وإيقاعاً- تؤسس لإزاحة أو تأجيل مسار التعبير- كلاً أو بعضاً- لصالح رؤية أخرى أو معنى آخر، أو سياق جمالي مختلف، من دون أنْ يكون ذلك مغادرة لسياق الدلالة الأشمل التي تؤطر مختلف أنماط التأجيل الواردة في النص))*.
والنص هنا قد يكون شفاهياً محكياً كما في تداوليات الحكاية الشعبيَّة أو (السالفة)، إذ يكون منطق (رباط السالفة) أو معنى الحكاية هو المطلوب، أو يكون نصَّاً شعرياً أو روائياً أو نصَّاً تحميه وتسوره الحكاية الإطار التي تتفرع منها حكايات أخرى بإشراف وتحرير المؤلف (مجموعة المؤلفين)، كما في (ألف ليلة وليلة) وما تماهى معها أوروبياً مثل (الديكامرون) أو (مغامرات السندباد) وبعدها (مغامرات جلفر) وألاعيب (هاكبلري فن) أو مسيرة حياة (جان فالجان) الشديدة التغيير في بؤساء (فكتور هوغو) أو بطل (الكوميديا الإنسانيَّة) الصغير لوليم
سارويان.
الأمثلة كثيرة ومتعددة على التغيرات التي يصنعها (التعليق) في النص الكتابي أو الشفاهي، لكنَّ صورة العرض الرائعة التي يقدمها المؤلف عن حيويَّة (التعليق) في الملحمة البغداديَّة الشعبيَّة (ألف ليلة وليلة) تغني عن الكثير.
إنَّ (تمثلات التعليق وجمالياته في كتاب ألف ليلة وليلة) التي صنعها المؤلف في الفصل الرابع من كتابه الجديد (ذلك من تأويله) حريَّة بالدرس والتأمل؛ ذلك أنَّه طبق مفهوم (التعليق) على هذا النص الشعبي المتفرد الذي اتسع به ناقلوه وأضافوا إليه وحذفوا من دون أنْ يستطيعوا الإخلال بالتشكيل الدرامي الأساسي له أو التعتيم على الحكاية الإطاريَّة التي ظلت مهاداً إضافياً لنصوص من كل حدبٍ وصوب تأثرت بالنص الأساس مثل (حكايات من بلدتنا) لهوثورون و(حكايات شهرزاد) لطه حسين ومئات النصوص الأخرى.
إنَّ تمثلات التعليق في ألف ليلة يلخصها الدارس بـ:
ـ التعليق المنتهي: حيث تورد الحكاية مرَّة واحدة مثل (حكاية شهريار وشاه زمان).
ـ التعليق المتكرر: تكرر فيها نماذج الأبطال في سلوكهم في هذه الحكاية أو تلك من محتال كـ(دايلة) أو محب وامق كـ (قمر الزمان) أو متصف بالشجاعة والمروءة كـ (الشاطر حسن).
ـ التعليق النهائي: مثل حكايات الحمال والسبع بنات وحكاية السندبادين البحري والبري.
- التعليق المستعاد: حيث تكرر وقائع الحكاية مثل تجربة شهرزاد الحكائيَّة كل ليلة.
- تعليق التشبيه: حيث إيراد الحكمة أو الطرفة المضافة داخل الحكاية.
- التعليق المتداخل: حيث يكون اصطناع لازمة للمحاور أو لبطل الحكاية الواردة.
أخيراً فإنَّ دراسة الدكتور علي حداد المستفيضة للنص (الألف ليلي) على وفق ما قدمه من مجموعة تعليقات يقدم كشفاً جديداً يحتاج منَّا الى وقفة جادة لدراسته وجلاء معانيه كاملة.