الوقف الشعري

ثقافة شعبية 2023/01/26
...

كاظم غيلان 


استحدثت إجراءات التغيير التي شهدها العراق بعد 2003 دوائر للأوقاف الدينية بعد أن كانت وزارة واحدة، وتعددت هذه الدوائر مستقلة عن بعضها، فوقف شيعي، وآخر سني، وكذلك للطوائف الأخرى، ومهمة هذه الدوائر تنظيمية في جانبين إداري ومالي ليس إلا، فهي لم تتدخل وليس بوسعها طبعاً أن تقوم بتغيير توقيتات الصلاة، ولا تغيير طقوس العبادة لأية طائفة.

هذا الحال ينسحب تماماً مع ما شهدناه من تناسل لمنظمات المجتمع المدني كتجربة ديمقراطية لم نألفها من قبل، وشهدنا ولادة العديد من الروابط والاتحادات المعنية بالشعر، واجباتها جميعاً تنظيمية كما الأوقاف، ومالية أيضاً تسعى للحصول على منحة سنوية لمن ينضوون تحت لوائها أو خيمتها بتعبير آخر. لكن جميعها لم تخلق شاعراً واحداً! أما كيف؟ فلنتحدث:

أسس شاعرنا محمد مهدي الجواهري اتحاداً لأدباء العراق مع بدايات العهد الجمهوري وبرفقته طاقم من المبدعين الكبار، لكن الأمر لم يدم طويلاً بحكم التقلبات والانقلابات السياسية والعسكرية التي سرعان ما تقلب الأحوال بعد إذاعة البيان رقم (١)، دارت السنوات دوراتها الحادة وجيء بمن يشغل مقعد الجواهري لكنه ليس بشاعر، ولا روائي، ولا قاص، بل مجرد كاتب افتتاحيات جريدة القوات المسلحة، لكنه الوحيد الذي يقوم بتوقيع هويات أدباء العراق، بدءاً من حسب الشيخ جعفر ولا أقول انتهاءً بعامر عبد الأمير. حتى دارت السنوات مرة أخرى وبحدة ليعود هذا الاتحاد وهو يحمل اسم رئيسه الأول ليكون (اتحاد الجواهري) متحرراً من كتبة الافتتاحيات الحزبية الصارمة التي ما أن تنتهي من قراءة جنجلوتياتها حتى تتخيل بأن فلسطين قد تحررت.

لكي أصل لما أبتغيه، فلا الجواهري ولا كاتب الافتتاحيات صنعا شاعراً واحداً. هذا الأمر بحكم المستحيل جداً، فالمنظمات غير قادرة على صناعة المواهب أبداً، فكم من طائحة ومتردية مرت عبر منتديات وملتقيات شعرية وغير شعرية، وكان مروراً ليس إلا لأنها بلا مواهب، ولم تملك سوى الاستعراض السطحي، لذا انطفأت. 

الشاعر أو الأديب النقابي ليس سوى موظف استهلاكي عابر وما أن يخسر جولته الانتخابية حتى يركن في دائرة النسيان.

الموهبة هي الأبقى من كل المؤسسات والمنظمات، فشاعر مثل جبار الغزي تحتفظ به ذاكرتنا الجمعية كصانع ماهر للأغنية العراقية، بيد أن هذه الذاكرة لم تشغلها أسماء من تناوبوا على إدارة الإذاعة العراقية التي بثت أغنيات كتب كلماتها الغزي.

الأوهام التي تسكن في عقول الذين اعتقدوا وآمنوا بـ ( مسؤولية) عن الشعر لم يفهموا التجارب الشعرية ولا متغيرات حال الشعر، بدءاً من عصره الجاهلي ليومنا هذا، لكنهم يفهمون تقاليد الاستعراض والبريق الإعلامي، ويستهويهم النقد الصحفي بهزيله ورصينه، يلهثون خلف كاميرات الفضائيات، إلا أن ما بين السماء والأرض ربما مسافة قصيرة تلك التي بينهم والموهبة.

أعطتنا دروس التاريخ الكثير مما يجب معرفته فما علينا سوى احترام تلك الدروس لكي نحترس من عدوى السقوط في خلطنا بين ماهو زائف وماهو حقيقي، بين ماهو مطلق وماهو نسبي، ماهو أبيض وماهو أسود لكي نتجنب الانزلاق .. 

فهل نتعظ؟.