مقبرة لتماثيل الحقبة الشيوعيَّة

بانوراما 2023/01/28
...

  ريشارد كوليت

  ترجمة: مي اسماعيل

منذ العام 1993 أصبح متنزه «ميمينتو بارك-Memento Park « (أي الحديقة التذكارية) منزلا لتماثيل الحقبة السوفيتية الطريحة، لتوفر مكانا لاستلهام الدروس والتذكر. 

يستقر زوج من الأحذية البرونزية العملاقة على قاعدة من الطابوق الأحمر فوق منصة خرسانية، ويمثل حذاء ستالين؛ استذكارا للتمثال العملاق للزعيم السوفيتي، الذي كان موضوعا وسط بودابست. أُطيح بالتمثال غضبا سنة 1956، بعد وفاة ستالين بثلاث سنوات؛ وهو الإرث «الأوزيماندي- Ozymandias» (= تذكير بأن السلطة مؤقتة؛ بغض النظر عن مدى فخر الطاغية أو استبداده. المترجمة، عن ويكبيديا) لنظام شيوعي سيطر على المجر لعقود. 

في مكانه خارج حلبة رياضية سابقة عند احدى ضواحي بودابست؛ قد يبدو الحذاء في موقع غير مناسب اطلاقا؛ لكنه في الواقع يمثل مدخلا لأحدى أكثر مناطق الجذب السياحي غرابة في العالم. 

يصف «ميمينتو بارك» نفسه بأنه.. «أول متحف في أوروبا الوسطى يذكر الناس بالديكتاتورية وسقوطها»، وهو مقبرة لتماثيل الحقبة السوفيتية التي أُسقِطت خلال تحول المجر الى الديمقراطية. داخل هذا المتحف الغريب المفتوح تقف تماثيل عملاقة لجنود الجيش الأحمر الى جانب تماثيل نصفية للزعيم «لينين»، بينما تستقر جداريات بطولية لعمال المجر قرب تماثيل قادة شيوعيين سابقين. وفي وقت تتجادل فيه العديد من الدول حول العالم عن معنى التماثيل والهدف منها؛ يقدم متنزه بودابست هذا نموذجا محتملاً لمناقشة النُصُب التاريخية بدلا من مجرد إزالتها. إنحلّت «جمهورية المجر الشعبية» سنة 1989بسلام لصالح نظام ديمقراطي، وبعد خمسين سنة من الحكم الشيوعي؛ بدأت التماثيل المُقامة لإحياء ذكرى قادة الشيوعية وأيديولوجيتها بالسقوط. في بودابست ازدادت النقاشات حول ما اذا كان يجب تدمير التماثيل التي أُطيح بها ونسيانها، أو الحفاظ عليها لتكون تحذيرا من مخاطر الدكتاتورية. وقررت الحكومة الجديدة وضع تلك التماثيل وسط حلبة رياضية قديمة في ضواحي بودابست؛ حيث جرى انتداب المعماري المجري «آكوس إليود» لتصميم متحف في الهواء الطلق جرى افتتاحه عام 1993. قال «إليود» عن «ميمينتو بارك»: «هذا المتنزه يتعلق بالدكتاتورية؛ وفي الوقت ذاته، وطالما كان مشروعا يمكن الحديث عنه ووصفه وبناءه؛ فانه يتعلق بالديمقراطية». 

وقت لفهم التماثيل

يقول كاتب المقال انه رغم كون هدف المتنزه تعليميا؛ فإن الانطباع الأول (عند الوقوف أمام المدخل الفخم المبني من الطابوق الأحمر) يجعله يبدو مثل «حديقة ديزني» للحنين للسوفيت. يُطل تمثال ضخم للينين على القادمين من داخل قوس، بينما يحدق تمثالان (تجريديا التصميم) لـكارل ماركس وفريدريك إنجلز (الفيلسوفين اللذين طورا الماركسية) بفتور نحو حذاء ستالين العملاق. يمكن سماع موسيقى من الحقبة الشيوعية تتعالى من جهاز عزف قديم عند كشك التذاكر، بينما يقف السياح لإلتقاط صور لهم قرب سيارة «ترابانت» الصغيرة (من صناعة ألمانيا الشرقية وكانت تُعرف بسيارة الشعب) مصقولة، كما تُباع أكواب قهوة وملصقات تحمل صورة لينين في متجر للتذكارات. لكن «جوديت هولب»؛ التي عملت في المتنزه لسنوات؛ تبدد سريعا أي إحساس بتوقير الشيوعية حينما تبدأ جولتها التعريفية في الأرجاء. تقول هولب: «نقف في «ميدان الشهود» خارج المتنزه، الذي يمثل كل شخص عاش يوما تحت حكم ديكتاتوري؛ في اليسار أو اليمين السياسي. ونشارك صمتهم هنا لأن اليسار واليمين يلتقيان دائما في التطرف». توضح هولب كيف ان وضع حذاء ستالين على منصة كونكريتية عملاقة عند طرف ميدان الشهود هو نوع من التحذير. تم هدم التمثال الحقيقي خلال الثورة المناهضة للشيوعية عام 1956؛ التي سرعان ما جرى سحقها حينما أُرسلت الدبابات الروسية الى المجر، وقتل آلاف المجريين أو سجنوا، وأُرسل مئات الآلاف الى المنفى. 

صمم «إليود» المتنزه بمنتهى الدقة ليمثل المسحات الداخلية المظلمة للدكتاتورية، وليدرك الزائر أن التفاصيل الدقيقة فيه أعمق بكثير من الانطباع الأول. هناك مسار طويل يصل الى نهاية المتنزه تتوسطه نجمة حمراء كبيرة، وتتفرع منه ثلاثة مسارات أصغر مقياسا، تحف بها تماثيل محطمة. وصفت هولب تلك المسارات الأصغر بأنها.. «مسيرات لا نهاية لها»؛ لأن المعماري صممها على أنها «حلقة لا نهائية» تعيدك دائما إلى ذات المسار المركزي. ويكون السبيل الوحيد للمضي قدما هو الالتزام واتباع نفس المسار مثل أي شخص آخر. تهدف التماثيل الاحدى والأربعون إلى إعادة تقييم الماضي الدكتاتوري في المجر؛ وهذا ما تعرضه هولب حين وقوفها عند «نصب الصداقة المجرية- السوفيتية» الذي أُقيم عام 1956؛ قبيل الثورة المجرية. يمثل النصب عاملا مجريا يصافح جنديا سوفيتيا، فيما يبدو بادرة للصداقة.. لكن ليس كل شيء كما يبدو؛ إذ يمد العامل المجري كلتا يديه بالصداقة؛ بينما يمد الجندي السوفيتي يدا واحدة تاركا الاخرى مشدودة بقبضة على جانبه. تقول هولب: «اليوم لدينا مزيد من الوقت لنفهم التماثيل، وما كان الفنانون يحاول قوله فعليا عن الصداقة غير المتكافئة بين السوفيت والمجريين». 


موعظة من التاريخ

في الجزء الأخير من المتنزه؛ حيث تهيمن التماثيل العملاقة (المصممة على النمط الشيوعي للواقعية الاجتماعية) من خلال الحجم الهائل والقامة؛ وتقود الزائر الى جدار مرتفع من الطابوق الأحمر؛ يمثل الطريق المسدود للديكتاتوريات. تمضي هولب متحدثة عن تأثير المتنزه على علاقة الزوار مع ماضيهم الشيوعي، قائلة: «انه علاج لكل الافكار السيئة التي نشأ عليها المجريون.. ولا يقتصر الامر على المجريين؛ بل يأتي الى هنا التشيك ومواطنو يوغوسلافيا السابقة وألمانيا الشرقية، لينضموا الى الجولات ويقولوا: «يا إلهي، كل بلد يحتاج إلى مكان مثل هذا؛ حيث يمكنك أن تأتي بكل مشكلاتك وتغادره نظيفا».». يُراد بهذا المتنزه أن يكون متحفا غير سياسي؛ حيث يمكن رؤية الماضي ومناقشته علانية.. ولكن لا مناص ان له دائما منتقديه.. فهناك مثلا «آغنس مولنار»؛ المرشدة السياحية المجرية التي تقود جولات في أرجاء العاصمة بودابست، وتُري الزائرين كيف كانت الحياة وراء الستار الحديدي. تقول مولنار (التي نشأت في المجر خلال الحقبة الشيوعية): «كان متنزه ميمينتو مثيرا للجدل جدا؛ إذ قال الكثيرون: ما حاجتنا الى هذا؟». ترى مولنار أن الكثير من المجريين كانوا يُفضلون نسيان تلك الحقبة؛ خاصة الأعمال الانتقامية التي أعقبت الثورة المجرية. لكن الآن؛ وقد سهّل مرور الوقت النسيان؛ قالت مولنار إن العديد من مواطنيها غير مبالين ببساطة بماضيهم: «لم يعد المجريون يزورون المتنزه بكثرة الآن». لكنها أضافت ان المتنزه أصبح عامل جذب سياحي أكثر من العامل المحلي. وعلقت: «إذا أراد السياسيون إقامة تماثيل عملاقة لأنفسهم؛ فعليهم التفكير مجددا.. ولو أراد أحدهم صنع تمثال كبير مثل تمثال ستالين؛ فيجب أن نخاف.. فهذا المتنزه تحذير من التاريخ». 

قد يكون متنزه ميمينتو مصدر إلهام للبلدان الأخرى التي تتعامل مع الانقسام حول الموضوع الخلافي للتماثيل التي أسقطت. تقترح هولب جمع تماثيل حقبة العبودية في حديقة واحدة يكون اسمها «حديقة التماثيل غير المرغوب بها».. «ومهما تكن رغبة الناس؛ ربما لا يجب اخفاؤها تماما الى الأبد».  


بي بي سي 

البريطانية