عبدالامير المجر
من بين الطرائف التي يتداولها الناس، والتي تتحدث عن الأمور المتأصلة في الانسان وصعوبة تغييرها، حكاية متخيّلة عن مبشّر ديني، جاء أرض المسلمين بقصد نشر ديانته، وقد اختار مجموعة من الأشخاص وراح ينفق عليهم ويلقي المحاضرات بشكل يومي، حتى صار شبه موقن من انه نجح في مهمته.. في أحد الأيام وبينما كان يلقي محاضرته، انقطع التيار الكهربائي، وباتوا في شبه ظلام داخل القاعة، وبعد وقت قصير عاد الكهرباء، واذا بالقاعة تضج بالصلوات على النبي محمد!.
الحكاية وكما قلنا متخيلة، لكنها تعكس حقيقة مهمة مفادها، بأن الكثير من التفاصيل في حياة الانسان من الممكن تغييرها، باستثناء ثقافته، فهذه مهمة معقدة وتحتاج إلى جهدٍ كبير، لأن الأقوام التي شكلت الأمم والدول لم يتحقق لها هذا إلا بواسطة الثقافة، التي تحصّلت عليها المجموعات السكانية، بعد أن تصاهرت وتلاقحت وتداخلت مع بعضها عبر مراحل تاريخية، لتصبح بما هي عليه، أو بعد أن أنتجت ثقافة مشتركة، باتت تشكل هويتها النهائية، اذ تبين وبالأدلة العلمية أن موضوعة العرق أو الدم الواحد النقي، أكذوبة وأن الذي يجمع الشعوب والأمم ويوحدها ويجعلها متكافلة هو الثقافة، لا سيما اللغة المشتركة، واذا تعززت هذه ببعد آخر، فهذا عامل مضاف لكنه يبقى دون اللغة، فالتجارب الإنسانية تقول، أن أبناء الديانات الواحدة تقاتلوا في ما بينهم كثيرا تحت غطاء هوياتهم اللغوية المختلفة. من بين أبرز ما اشتغلت عليه قوى محلية ودولية في عراق ما بعد 2003، هو تغييب هوية العرب فيه، والذين يشكلون اكثر من 80 بالمئة من سكانه، ويتوزعون بين أكثر من 90 بالمئة من ارضه، وكان الاسلوب المتبع في هذه اللعبة، هو تفعيل الهويات الفرعية ودفعها إلى أكثر ميادين الصراع إغراء، وهما السلطة والمال، وبات استخدام الهويات الفرعية هذه، كالطائفية والمناطقية، يمثل الوسيلة الوحيدة للوصول إلى هذه المكاسب، وقد حققت تلك الجهات نجاحا لا يمكن إغفاله، لا سيما في السنين الأولى التي أعقبت الاحتلال، حتى باتت تسمية المكونات من المسلمات التي يتعامل معها الاعلام والساسة بشكل يومي، واطمأن بعضهم إلى أن الهوية الكبرى (العربية) باتت في خبر كان، وأن الحديث عنها يثير الشبهة أحيانا ويجعل صاحبه في وضع المتهم بالاقتراب من محظورات معروفة! لقد كانت الصدمة الاولى، لمن تبنوا هذه اللعبة واستثمروا بها سياسيا، هي ثورة تشرين التي لم يقتصر حجمها على ميادين الاحتجاج، وانما باتت ثقافة مجتمعية تعبّر عن الرفض القاطع لتكييف فكرة المكونات بالصيغة التي أريد فرضها على العراقيين، أو العرب منهم تحديدا، والقفز على ثقافتهم الرئيسة كمدخل لتقسيمهم بين القوى الطائفية، وتوزيع الغنائم السياسية بينها.. وعلى الرغم من كل الذي جرى من ارهاب مصطنع أو حصل تحت ظل ظروف ملتبسة، اشتغلت عليها قوى الشر في الداخل والخارج، ومحاولتها إلباسها لبوساً طائفياً بقصد توسيع الهوة بين عرب العراق، لكن هذه المشاريع اسقطت فورا بعد أن انجلت الغبرة وتبين أن العراقيين العرب، في مشاعرهم تجاه بعضهم البعض، أكبر من كل هذه الألاعيب، وأن التجربة المريرة جعلتهم يدركون أن ما حصل من كوارث سببها إبعادهم عن ثقافتهم الجامعة، واضعافهم لصالح مشاريع محلية تنتهي بتقسيم البلاد وتجاوز البعض على حقوق البعض
الاخر.
بطولة خليجي 25 التي اقيمت في البصرة مؤخرا، كشفت عن اكثر من حقيقة، أهمها أن العراقيين أزاحوا من الأذهان المقولة التي اشتغل عليها الاعلام المغرض الموجه، والمتمثلة بأنهم باتوا ينبذون هويتهم الكبرى العربية، وأنهم توزعوا بين هويات فرعية. ومع أنهم يعتزون بتلك الهويات الفرعية، لكنها لن تكون البديل الكامل لهويتهم الكبرى العربية، التي تتعايش معها الهويات القومية الأخرى، كالكردية والتركمانية، وتتكامل على أرض الرافدين منذ
القدم.
العرب في الخليج وغيره ايقنوا بعد هذه البطولة وما شاهدوه، أن الاشتغال على هذه اللعبة فشل في صناعة نمط ثقافي لدى الشباب ممن هم دون الثلاثين، والذين يشكلون الأغلبية من سكانه، والذين كانوا هم المستهدفون أصلا في هذا الخطاب، وأن هؤلاء باتوا رأس النفيضة في التصدي للطائفية والمناطقية، وأكثر الداعين حماسة للعراق الواحد، وبهويات أبنائه الرئيسة، التي تحتفظ لكل منهم بثقله الحقيقي غير المجزأ لأغراض
معروفة.
ترى هل استوعب الدرس اللاهثون وراء المشاريع الطائفية، التي لم تجلب للعراق سوى الخراب والدمار، أم أنهم سيعملون على تجاوز ما حصل في خليجي 25 والعمل على استيعابه ثقافيا كما يعتقدون، أو مثلما تخيلوا وتوهموا من قبل أنهم استوعبوا تشرين ومخرجاتها، وتبين لهم لاحقا أن تشرين حقيقة حيّة، وهي بداية التغيير، الذي أكدته وكرسته بطولة خليجي 25 مثلما ستؤكده غيرها لاحقا!.