المسؤول والاحتراق الوظيفي

آراء 2023/02/01
...

 سناء الوادي

 «لم يعد لدي ما أقدمه لأربع سنوات قادمة» بهذه الكلمات الشجاعة تنحّت رئيسة حكومة نيوزيلندا جاسيندا أرديرن عن منصبها، الذي تقلّدت مهامه منذ العام 2017م، ولأن المنصب بالنسبة لهذه السيدة تكليف لا غنيمة قدمت له الكثير من العمل والقليل من الكلام، فأصبحت منجزاتها التي تأثر فيها المجتمع النيوزيلندي حديث العالم ومثالاً يحتذى لمن أراد خدمة وطنه وشعبه بكل ما أوتي من الأمانة المهنية، وباتت هذه الدولة ذات الخمسة ملايين نسمة بفترة توليها حصناً منيعاً للحكم التقدمي في العالم

 قياساً بمقدار ما تحقق من ارتفاع مستوى رفاهية السكان، فهي عندما زادت أجور الموظفين 30 % كانت قد خفضت أجرها والمسؤولين 20 % ورافق ذلك دعم الدولة الكبير لقطاع التعليم وتخفيف التكاليف التي أرهقت الأهل إضافة للتعديلات التي أدخلتها على النظام الصحي، ناهيك عن الاعتداء الإرهابي على المسجدين في مدينة كرايست تشرش، والذي أرّق أركان الدولة عام 2019م واحتوائها العبقري لأهالي الضحايا عندما ذهبت لتعزيتهم مرتدية الحجاب الإسلامي، تعبيراً عن احترامها وتعاطفها مع مشاعر المسلمين وما أعقب ذلك من قرارها حظر الأسلحة النصف أوتوماتيكية في البلاد، ومن جهة أخرى كان عظيماً ذلك الاعتذار الذي قدمته رسمياً لسكان جزر الباسيفيك (جزر المحيط الهادئ) المهجرين عنوة عن بيوتهم بفعل ما سمي بمداهمات الفجر الممارس من قِبل حكومة بلادها آنذاك، فشاركتهم طقوسهم الدينية بطلب المغفرة أمام الجميع وقد عبّر هؤلاء عن استحسانهم لذلك واعتبروه خطوة جيدة لبناء علاقات الصداقة بين الجانبين، ولا يمكن أن ينسى المواطن النيوزيلندي مقطع الفيديو الذي بثته مباشرة السيدة أرديرن كتحفيزٍ له لارتداء الكمامة عندما صنعت واحدة خاصة بها بنفسها من مواد بسيطة تتألف من منديل وربطتي شعر، وبما أن التدهور المناخي كان جزءا لا يتجزأ من برنامجها الإصلاحي فمنعت استعمال الأكياس البلاستيكية، وعملت جاهدةً على تفعيل الطاقة النظيفة وزرع الأشجار بأعداد هائلة وتنظيف الأنهار، وهو ما زاد شعبيتها والتي بفضلها نال حزب العمال النيوزيلندي فوزاً ساحقاً منذ ما قارب النصف قرن عام 2020م بعدما انتشلته من أزماته التي غرق 

فيها.

الأسلوب المتعاطف واللطيف الذي ميّز قيادة هذه المرأة لم يثنها عن الوقوف أمام التفاوت المخزي في الحقوق بين السكان الأصليين (الماوريين) وبين السكان الوافدين من أوروبا إبان الصراعات التي كانت تدور فيها، حيث تم على إثر ذلك توقيع اتفاقية واتيانغي بين التاج البريطاني والماوريين الضامنة لحقوق المستوطنين، والتي اتُخذت كغطاء يشرّع لهم امتلاك الأراضي والموارد، فاكتسحوا السكان الأصل ونقلوا معهم ثقافتهم وتجارتهم وزراعتهم وجلبوا رؤيتهم السياسية المتمثلة بوجوب سيادة المساواة أمام القانون للجميع،غير أنه ومع ذلك عانى العرق الماوري من الإجحاف والظلم بقطاع التعليم والصحة والأحكام القضائية، وهو ما لم يغب عن بال جاسيندا ابنة مدينة هاميلتون. 

كل ما سلف ذكره خلق لصاحبة البرنامج الإصلاحي المهم الذي غير وجه نيوزيلندا وبوأها المركز الثامن عالمياً للعام السابع على التوالي حول الدول الأكثر سعادةً حسب تقرير الأمم المتحدة عام 2019م، خلق لها المناهضين على عدة أصعدة أبرزها تلك التي تتعلق بالإجراءات المتبعة للوقوف ضد انتشار كوفيد 19 فوصلتها العشرات من رسائل التهديد مما نكّد عيشها وحرمها لذّة النوم، ناهيك عن القوانين الجامدة والمقيدة للطموحات والتفاصيل، التي تجعل المسؤول المثابر يضيق ذرعاً بمسؤولياته فيشعر بثقلها وعدم قدرته على الاستمرار. 

شخّص بعض أطباء النفس أن ما دفع السيدة أرديرن للتنحي هو الاحتراق الوظيفي فكمية الضغط النفسي والإرهاق الذي عانته فاق قدرتها ولربما تحولت من الاستمتاع بالعمل إلى الفتور وانعدام الدافعية، ولأنها تفرّدت بالأسلوب القيادي الودود العاطفي، كذلك تفرّدت باعترافها أنه ليس ثمة جديد تقدمه في فترة ولايتها الجديدة، لكم أتمنى أن تغدو شجاعتها ملهمة لكل مسؤول أو ذي نفوذ في الدولة أن يرحل عندما لا يستطيع أن يعطي الحلول لمشكلات المواطن وأن يذلل العقبات أمامه، ولكل من تسوّل له نفسه استغلال نفوذه لخدمة مصلحته الشخصية واضعاً نصب عينيه أن المنصب تشريف لا تكليف.